في العام 61 الهجري 680 الميلادي قُتل سبط الرسول العربي الإمام الحسين في معركة غير متكافئة ضد جيش الدولة الأموية التي قاد تمردا عليها. ومن سوء حظ العراقيين أنه اختار كربلاء مكانا لما سُمّي بمعركة الطفّ التي انتهت بمقتله وأفراد من عائلته وعدد من أصحابه وعددهم لا يتجاوز السبعين فردا.لا أدري لأيّ سبب اعتبر العراقيون ذلك الحدث مأساتهم الوطنية. ألأنّ أهل الكوفة دعوه ثم تخلوا عنه أم لأنهم أصمّوا آذانهم عن سماع ندائه والمشاركة في ثورته؟ الكوفة ليست العراق كله ومَن قال إن العراقيين سمعوا بأنباء الثورة المغدورة في حينها.
لست على معرفة دقيقة بتاريخ الندم الذي بدأ العراقيون معه مسيرة حزنهم على مقتل الحسين التي لم تتوقف حتى هذه اللحظة. غير أن ما هو ثابت أن تلك الواقعة ارتبطت بالتشيع وصار إحياؤها حكرا طائفيا وبالأخص بعد أن اتخذ التشيع طابعا فارسيا بعد كتاب “الكافي” لمؤلفه الفارسي “الكليني” والذي كُتب في القرن الرابع الهجري أي قبل أكثر من ألف سنة.“لعن الله أمة قتلتك” والمقصود هنا العرب. لقد صدّق العراقيون تلك اللعنة التي وقعت عليهم بسبب صراع وقع بين ثائر قدم من الجزيرة العربية ونظام سياسي عاصمته دمشق. ومهما فعلوا على مستوى الندم والاعتذار والتأسف فقد وقعوا تحت المطرقة وصارت الطقوس الحسينية جزءا من تشيّعهم، بل هي الركن الأساس لذلك التشيع. وبالرغم مما شهدته بغداد من تطورات جوهرية في مجال الفقه الإسلامي فكانت عاصمة الملل والنحل في العصر العباسي فإن اللعنة ظلت قائمة باعتبارها جزءا من عقدة الذنب الذي لم يرتكبه العراقيون.
تلك اللعنة رافقت العراقيين في مختلف عصورهم إلى أن وصلوا إلى العصر الذي انفتحوا فيه على الأحزاب السياسية فتعاملوا معها انطلاقا من تربيتهم الحسينية. ما فعله التحزب بالعراق يذكّر بمعركة الطفّ وأثرها المدمر على العراقيين بالرغم من أنهم لم يكونوا مشاركين فيها. لقد لعن العراقيون بعضهم البعض الآخر باعتبارهم أعداء لا مفر من اقتتالهم ومن بعده صارت اللعنة تطارد المنتصرين الذين هم القتلة والمقتولون على حد سواء. فالأمور لم تُحسم بشكل قاطع وظل الصراع قائما فتارة يذبح الشيوعيون القوميين وتارة أخرى يذبح البعثيون الشيوعيين ومن ثم يأتي دور القوميين ليذبحوا الطرفين وحين احتاج الأميركان من أجل ترجمة احتلالهم محليا إلى طرف عراقي لجأوا إلى الإسلاميين الذين فكروا في اقتلاع الجميع باعتبارهم علمانيين لولا نصيحة أميركية بالتريث في مسألة تصفية الشيوعيين. كان مقتدى الصدر قد صبّ لعنته على الشيوعيين فأحرق مقراتهم.
أصرّ كُتّاب الدستور الجديد على أن يحتوي على فقرة تجرّم حزب البعث والانتماء له وطاردت اللعنة البعثيين ممن لم يثبت أنهم لم يرتكبوا جريمة وكانوا مجرد موظفين في الدولة بقانون اجتثاث البعث الذي يُقال إن أحمد الجلبي اخترعه، الرجل الذي يدين له بعض العراقيين بالولاء كونه صديق الأميركان الذي أقنعهم بغزو العراق وهي كذبة عراقية بامتياز. المهم هنا أن الأميركان كانوا يعرفون حين غزوا العراق أن أبناء ذلك البلد المنكوب مستعدون لطقوس اللعن. تلك واحدة من أكثر عاداتهم شيوعا. لقد صبّوا لعناتهم على البعث وكان الجزء الأكبر منهم بعثيين قبل أيام.
لا أحد في العراق يسأل أحدا آخر “ماذا تفعل؟” الجميع خائفون من تلك اللعنة التاريخية. ذات يوم سألت الدكتور فوزي رشيد وهو المتخصص بالحضارة السومرية عن أصل تسمية أرض السواد فقال “حين سقطت دولة أور الثالثة عم الحزن البلاد فلبس الناس السواد فقيل إنها أرض السواد”. لم تكن تلك التسمية إذاً تعبيرا عن الأخضر القاتم الذي يوحي به مشهد الحقول مترامية الأطراف، بل كان هو الأسود الذي سيكون صديق اللعنة في حياة العراقيين. وهكذا فإن البعث الذي صار يصبّ العراقيون لعناتهم عليه لم يكن عدوهم الأول الذي يستحق اللعن ولن يكون الأخير.
بسبب التشيع الفارسي ورّط العراقيون أنفسهم في إشكالية اللعن. فهم يلعنون أنفسهم بسبب مقتل الإمام الحسين ولم يكن لهم يد فيه. فلا هم من سكان المدينة المنورة في الجزيرة العربية التي تخلت عنه ولا هم من سكان دمشق التي قتلته. لقد سبق لهم أن صدقوا أن “الشيوعية كفر وإلحاد” وسبق لهم أيضا أن محو اسم جمال عبدالناصر من إحدى الساحات ليضعوا بدلا منه اسم أبورغال. إنهم أمة صعبة تطاردها اللعنات.