يمثل شارع المتنبي سوقاً مختلفة عن أسواق الكتب في العالم، فهو فضلا عما يملكه من عراقةِ تأسيسه، وما يحيط به من أمكنة تاريخية، يعد محفلا ثقافياً ومهرجاناً أسبوعياً وملتقى لجميع مبدعي العراق، عبر مؤسساته الثقافية ومقاهييه التي تعدى وجودها الغايةَ الترفيهية إلى وجود معرفي إبداعي عرفه واعتاده مثقفو البلاد. ولكن يلاحظ من ارتاد شارع المتنبي تغيّراً سريعاً على واقعه، فقد طرأ على حياة هذا الشارع جانبٌ سياحيٌّ أحدث ردود فعل مختلفة عند روّاده من المبدعين، من هنا تساءلتُ: كيف ترى هذا التغيّر؟، هل يمكن أن يؤثر الواقع السياحي الآني على الثقافي فيه ويفرّغه من محتواه، أم أنَّ الأمر يزيد الشارع مكسباً جديدا؟، ألا ترى أنَّ مستقبل شارع المتنبي معرض للتشويه بداعي التجارة والتكسّب والترفيه؟، بِمَ تقيِّم التغطيات الإعلامية لهذا الشارع؟، وماذا عن أهمية دعمه من قبل الدولة؟، وماذا تقترح للحفاظ على رصانته الإبداعية؟.
مستقبل مريب لرئة ثقافيَّة
القاص حميد المختار أشار في إجابته إلى مواكبته لشارع المتنبي منذ منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، إذ كان فارغا من أي نشاط ثقافي سوى محال بيع القرطاسية وبعض الأفران والمطاعم على حد وصفه، لافتا إلى أن ارتباط المثقفين الأساسي وهو منهم كان بسوق السراي لأنه يحوي المكتبات العريقة، ثم حدثت حسب المختار الطفرة الأولى في فترة الحصار بعد أن عرض الكثير من أدباء العراق ومثقفيه مكتباتهم الشخصية ومن ضمنها مكتبته.
مبيناً أنّهم كانوا يتداولون آنذاك الكتب الممنوعة والمستنسخة وكانوا يحاربون رجال الأمن لأجل ذلك.وعن تطور الشارع في مرحلة ما بعد 2003 قال: بعد سقوط نظام صدام ازدهرت السوق وتوسّع الشارع، ثم حدث التفجير الإرهابي الذي لفت أنظار الحكومة للشارع وتمَّ الترميم الأول وازدهرت المكتبات وبدأت دور النشر العراقيَّة تتكاثر وصار الذهاب إلى الشارع طقسا أسبوعيا مقدّسا في كل جمعة، وذاع صيته كونه صار يمثل رئة العراقي الثقافية وملتقى أجيال مثقفي البلاد، فضلا عن النشاطات الثقافية في قاعات المنتدى الثقافي المطل على دجلة، حتى جاء الترميم الثاني والذي صحبته محاولة وزارة الثقافة بإحياء ليلة رأس السنة في شارع المتنبي وكان هذا إيذانا بفتح الشارع ليلاً، وربما تكون هذه الخطوة حسنة لأول وهلة لكنها بعد تأمل بسيط وزيارة قصيرة في مساء أحد الأيام اكتشفت أنّه لبس لبوسا آخر غير اللبوس الثقافي المعتاد، إذ صار وجها سياحيَّا فيه شبهات وريبة، فالوجوه غير الوجوه والممارسات التي تحدث فيه تنافي أي فعل ثقافي أو أخلاقي، كنت أتوقع أن تقوم مؤسسات وزارة الثقافة بتقديم نشاطات ثقافية وعروض مسرحية ومعارض كتب وقد حدثت بعض هذه العروض المسرحية ولكنها يتيمة وليست كافية، والجمهور الذي يؤمُّ الشارع ليلاً لم يأتِ لأجل الأنشطة الثقافيَّة أبداً، إنما هناك طقوس أخرى غريبة عن أصالة الفعل الثقافي القديم.
وأضاف المختار: بنظرة فاحصة وجولة قصيرة استطعت أن آخذ صورة لشارع آخر غير شارع المتنبي المعتاد ونشاط آخر يحمل من الريب والمخاوف على مستقبل الشارع وربما سيكون من علامات انهياره ثقافيا، لهذا أدعو وزارة الثقافة وجميع مؤسساتها إلى الإسراع بإنقاذ الشارع من خلال تفاعلهم بتقديم نشاطاتهم الثقافية ولا بأس أن يكون شارعاً للسياحة الثقافية والمقاهي الثقافية ولتكن مع السلعة الثقافية ثمة قيم ورموز ثقافية إنسانية وحضارية تؤكد على عراقة وأصالة هذا الشارع لا أن تسلخ منه هويته وتاريخه ليكون بالنتيجة عنصر طرد لرموزه ومرتاديه من المثقفين، أما أن يكون عنصر جذب لظواهر شاذة وتصرفات صبيانيَّة غريبة فهذا مرفوض وربما ستكون لنا وقفات احتجاج على كل هذه المظاهر السلبية التي شوّهت الشارع وقدمت بدلاً عنه مسخا غريبا لا نعرف ملامحه.
لا تتباكوا على شارع المتنبي
كانت إجابة القاص شوقي كريم مختلفة عن سابقتها فقد رأى أنَّ الشارع من حق الجميع تحت أي عنوان ولم يكن مع إشاعة خصوصيَّة الشارع الثقافيَّة واحتكاره لهذه الفكرة فها هو يقول موضحاً: لا أجد سبباً معقولاً لهذا التباكي، المتنبي الشارع ليس حكراً على طبقة من دون أخرى ولا هو مكان خاص بالفكر والثقافة، بل مكان عام يرتاده الجميع تحت أي يافطة يختار، السياحة والتعرّف على معالم الشارع وحقوله الجماليَّة، الاطلاع على حركة الحياة بكاملها وكيفيات تعامل الإنسان العراقي معها.وجود الكتاب والمكتبات لايمنع من وجود سلع أخرى وأمكنة ترفيهية وتجارة تقدم السلع الإرثيَّة الفلكلورية والموسيقى والغناء فلِمَ نريدُ حرق كل تلك الحيوات والابقاء على الكتاب وحده، تلك قسمة أجدها غير منصفة ولِمَ نحتج إذا مارأينا الشباب يبحث عن وجوه فنية وثقافية يعرفها ويود مشاركتها لحظات تصوير لتكون الجزء الجميل في حياته، دعوا بغداد تتنفس الحياة من خلال هذا المعلم ولا تقفوا حجر عثرة، من أراد كتابا فله ما أراد ومن أراد التأمّل فله الحق، تلك هي المهمة الإنسانية التي يجب المحافظة عليها وإدامتها داخل هذا الشارع العريق.
ظواهر وتساؤلات
الشاعر والصحفي عبد الجبار العتابي تحدث لنا عن مرافقته لتطورات عديدة حدثت في شارع المتنبي، فقد لفت إلى انه عاش معه العديد من تحولاته ابتداءً من كونه شارع مطابع ومن ثم حين بدأت (بسطيات) بيع الكتب تمتد على أرصفته مع مطلع التسعينيات والتي تكاثرت وجعلت من الشارع محطة استقطاب للقراء لا سيما ان (البسطيات) زخرت بالنوادر من الكتب وهو ما جعل المثقفين يرتادونه أكثر من سواهم، وامتد ذلك الى سنوات الألفية الثالثة وخاصة بعد 2003 حين خرجت الكتب الممنوعة لتتسيد الشارع على حد وصفه. مشيرا إلى أن ظاهرة تسيّد الكتب الممنوعة كانت على ما يبدو (فورة) وقد صار الشارع يمتليء بالزوار والعابرين بل انه بعد إعمار الشارع في العام 2008 أصبح محطة لمن أطلقت عليهم صفة (المكبوتين) ليعبّروا عما يجيش في دواخلهم على اختلاف معاناتهم، فيأتي شخص أو مجموعة أشخاص للتصريح بما يعانون ويكابدون من خلال أصواتهم أو لافتات يرفعونها.
وقال العتابي مبيناً: كنت أعتقد أن هذا الحراك ظاهرة صحية، ولكنني كصحفي كنت أتأمل ما يحدث في أرجاء الشارع وأسأل باعة الكتب فيشعرون بالحيرة لأن مبيعاتهم صارت قليلة، بل إنني اتفقت مع أحد الزملاء الصحفيين أن نراقب الذين يخرجون من الشارع ونلاحظ الكتب بين أيديهم فكانت النسبة أقل من ثلاثة في العشرة للأسف!، حتى أنني كتبت في العام 2014 (لم يعد شارع المتنبي الذي يسمى شارع الثقافة كما كان في سنواته الأخيرة، لم يعد شارعاً ثقافياً جملة وتفصيلاً أو قلباً وقالباً كما يقال، بل اهتزَّ قليلاً وصارت الخطى التي تتجول فيه متسارعة وصاخبة وتنتاب رواده الحقيقيون انتباهات يعلوها الاستغراب والدهشة)، وهكذا كان في السنوات اللاحقة.
وأضاف أيضاً: أما الآن وقد امتدَّ السهر إليه وأمسى في حلة جديدة وجميلة، فقد اختزل كل المراحل فاختفى المثقفون بل إن البعض ممن دخلوه وجد نفسه غريباً، فهو لم يعد يرى أولئك الأقران الذين كان يجدهم ويتجاذب معهم أطراف أحاديث الثقافة وكأن المثقفين اتفقوا على أن الشارع لفظهم وقد صار مجرد (متنزه) مضاءة أرجاؤه وسوق يجول في أرجائه الباعة، باعة الأطعمة والمشروبات وما إلى ذلك، وبات الصخب يضج من أعماقه من دون أن يكون للكتاب حضور فاعل فيه، سهر يقوم على الطرب والمزاح في أغلب ساعاته، وأن يحاول البعض إعادة الشارع إلى وظيفته الأولى فلن يفلح لأن الظواهر الجديدة غطت مساحاته، وهذا ما يراه البعض (واقعاً سياحيَّاً)، وأعتقد أنه واقع غير مكتمل لأنه سيصيب السائحين بالملل، لكنه أفرغ الشارع من محتواه الثقافي وبالنتيجة سيغيب عنه المثقفون والسائحون.
أرى أنَّ الدولة إن كانت جادة في مسعاها فعليها تطوير شارع الرشيد من تمثال الرصافي وصولاً إلى الميدان وإضاءته بشكل جميل ومنع سير السيارات في هذا الجزء وتحفيز الآخرين على فتح مطاعم وكازينوهات مع المكتبات الموجودة، كذلك تطوير الأمكنة ما بين مقهى الشابندر إلى سوق الهرج وإضاءتها بشكل جميل والتشجيع على فتح كازينوهات، وبهذا تكون السياحة ضرورة ويعود المثقفون إلى شارعهم الذي بالتأكيد سيعود إليهم.