أعترفُ بأنَّ أسوأ ما يتعرض الشِّعر له هو ما يقدّمه الدرسُ الأكاديمي كتعريف به، أو ما يحاوله المحاضرون في مجالس الأدب والورش الثقافيّة، من تقريب لماهيته ومعانيه، أو محاولة إيجاد حقيقة له، هذه الجهود التي تبذل دائماً، لا معنى لها، ولعلنا لن نقع – ما حيينا- على تعريف يقربنا منه، أو يدلنا عليه. الشعر قضية غير محتواة في قاموس الميتافيزيق، أيضاً هي خارج ذلك كله.
كلُّ شعراء العالم الكبار لم يقدّموا تعريفاً معتمداً للشعر، لكنهم كتبوا القصائد الأخلد والأجمل، بل لم يشغلوا تفكيرهم في ذلك، وربما نجد بينهم ما ينفيه تماماً، فالشعر بحسب أدونيس، على سبيل المثال، غير موجود، فهو يقول: ليس هناك شعر، هذه كلمة ابتدعها النُّقاد، إنما هناك شعراء، ولكي يستحق الشاعرُ اللقبَ هذا لا بدَّ له من ثلاثة شروط: الأول، هو اللغة الخاصة، التي تقع داخل اللغة التي يكتب بها، فهي صوته المستقل. والثاني، هو جملة العلاقات القائمة بين الكلمات والأشياء، التي لا بدَّ أن تكون مبتكرة، يقدِّم الشاعرُ من خلالها صورة جديدة للعالم، والثالث، هو أن تكون قصيدته مليئة بالنوافذ، تفتحُ طرقاً ومسالك وآفاقاً للتساؤلات والتفكير.
أعترفُ بأنّه كاد أنْ يغمى عليَّ، يوما، وأنا أحاضر في ورشة تدريبيّة صغيرة لتعليم الشعر، فقد كنت جاهداً في إيجاد تعريف له، فعرجتُ في تعريفه عند العرب، عبر الجملة التافهة جداً: الكلام الموزون المقفى، ولم أجد ببيت الحطيئة الشهير «الشعر صعب طويل سلمه..» ما أقوله، وانتقيت من ريتشاردز وماكليش وتودوروف وغيرهم الأسطر الكثيرة، محاولاً تقريب صورته إلى المتدربين، فلم أفلح، فقد كان هذراً، لا معنى له. يعترف بورخيس بأنه أخطأ حين عنون محاضرته الأولى، التي ألقاها بهارفرد في خريف 1967 (لغز الشعر) إذ كان التفخيم في كلمة «لغز» غير مسوّغ، فهو لم يكن قد اكتشف المغزى الحقيقي للشعر، الذي حاول أنْ يقرّبه لنا بقوله: «هو في كل مرّة تجربةٌ جديدةٌ، وكلّ مرّةٍ نقرأ فيها قصيدةً ما، تحدثُ التجربة».
أعتقد بأنَّ حديث الشعر يقودنا إلى لحظة الكتابة، وهي لحظة قلقة، ومتحولة في الزمن، فإذا كان الشاعر العربي الأول يكتب أو يقول قصيدته دونما تفكير مسبق، باختيار موضوعه (الغرض) وبنوع البحر، قبل تقعيد الفراهيدي لنظام البحور، فقد صار الشاعر في العصرين الأموي والعباسي والعصور التي تلت يغرّض أولاً، ويختار موضوعاً ما، ويلزم نفسه ببحر معين، ويحدّد حرف الرويّ، قبل شروعه بكتابة قصيدته، وعند جيل الريادة العربيّة وعند بعض من شعراء الجيل اللاحق فقد اختفى حرف الرويّ، وظلَّ الغرضُ والوزنُ قائمين، بوصفهما قوام القصيدة، لكنَّ الوزن وحرف الروي والغرض -بمعناه القديم- ربما اختفت عند شعراء الجيل الجديد (جيل قصيدة النثر) لنقع على فهم وشكل جديد للشعر.
أخفق، كلما حاولت إكمال قصيدة موزونة لكثير من شعراء (التفعيلة) مما يكتب وينشر الآن، هناك جملة مصدات تتجمع أمامي وتحول بيني وطبيعة الشعر، أو طبيعتي في فهم الشعر. يبدو أن ذائقة مختلفة تتشكّل، خارج إرادتنا، أو أنَّ علاقة الحياة بالكلمات تتأسس على وفق منطق آخر، يقع خارج فهم الشعراء الذين ما زالوا يرون في الوزن ضرورة ووجوبا، فيما يكون الشعر اليوم أكثر قرباً من حياة وطبيعة الإنسان العادي، من رجل الشارع، ذلك لأنّ مادته هي الكلمات، لغة الحياة الحقيقيّة.
نحن نستعمل الكلمات للأغراض اليوميّة التافهة والكلمات مادة الشعر، الذي يعيد الحياة الى منبعها الأول، بحسب ستيفنسن. كثيرا ما أعود الى كلمات عابرة، كنت قد دوّنتها في لحظات عابرة أيضاً، بعضها في الحب وبعض آخر في الضجر والكسل أحياناً لكنّها غالباً ما تنبثق أمامي، لتكون كِسَراً صغيرةً (مادة) تنمو في جسد القصيدة مثل طحالب ملوّنة على حجارة في سور البيت.