علي الكاش
في السبعينيات من القرن الماضي تعرفت عن أحد الأخوة في بغداد ممن يكبرني عمرا وثقافة بعد صلاة الجمعة وكان قد أبدى ملاحظات مهمة وقيمة حول قراءة القرآن الكريم، بعد أن قرأت له بعض مما أحفظه، وبطريقة الخبير المتمكن أبدى إعجابة بكثرة ما أحفظه، وبنفس الوقت أبدى تحفظه من طريقتي في القراءة. موضحا ليٌ أهمية التشديد على الحركات المبينة على الحروف، وضرورة التأني في
القراءة. بعدها توطدت علاقتي بها وتحسنت عندي قدرة قراءة القرآن بفضله. قلت له في يوما ما بأن البعض يتهمك بالإشتراك بحزب الإخوان المسلمين وحذروني من مغبة هذا الأمر. إبتسم كعادته بهدوء، وقال هذا صحيح وأصبح شيئا من التأريخ. من خلال زياراتي المستمرة له في مكتبته العامرة التي تضم آلاف الكتب ومناقشة أهم وآخر الإصدارات، أخرج ليٌ بعض الكراسات، وقال بسبب هذه الكراسات خرجت من الحزب، بل وإحتقرته وأيضا. قلبت بعض الكراريس لأفهم السبب ولا حظت في أواخرها، كتب طبع في واشنطن! وكانت مفاجأة صاعقة ليٌ، فقد كانت الأفكار العروبية والقومية ما تزال تنبض في قلوبنا الفتية بشدة، وتستقطبنا أفكارنا وطروحاتنا بلا منافس، قال لاحظ الإخوان يطبعون كتبهم في واشنطن لكي تتحول الى رصاص يقتل إشقائنا في فلسطين. بقينا لفترة نناقش الموضوع من كل الجوانب وخلصنا بأن الغرض من تشجيع الولايات المتحدة الأمريكية للأحزاب الدينية إنما غرضه مواجهة التمدد الشيوعي في المنطقة من خلال التركيز على الطروحات الإلحادية للفكر الشيوعي وإعتباره الدين أفيونا للشعوب حسب مقولة ماركس. ولكن الذي لم نتوصل له في حينه وكشفته قوادم الزمن، ان الولايات المتحدة ومن ورائها الدول الأوربية السائرة في فلكها لا بد أن تكون لها إستراتيجية بعيدة المدى من وراء هذا الدعم للمركات الإسلامية غير المعتدلة في طروحاتها.
جاءت الثورة الإيرانية لتؤكد الدعم الأمريكي والأوربي للخميني عندما نقله الفرنسيون على طائرة خاصة من باريس إلى طهران، وأخذت الأضواء تتركز على الدعم الأمريكي لتنظيم القاعدة لمواجهة الغزو الروسي لإفغانستان والتي تبلورت في مشروع (السي آي أي) بما يسمى( عملية الأعصار). وبعد الإنسحاب الروسي المهين، تغيرت البوصلة فجأة وبدأت تنحرف إلى إتجاهات معاكسة وهي الحرب على الإرهاب. والحقيقة إن التسمية لم تكن صائبة لأنها الحرب على الإسلام، ولم يدر بخلدنا بأن الإسلام والإرهاب هما وجهان لعملة واحدة في نظر الولايات المتحدة وتابعها الأوربي.
في عام 1984 صرح الرئيس الأمريكي رونالد ريغان بأن حكومته” أعلنت الحرب على الإرهاب حالا، وحدد مصدره بمنطقتين هما الشرق الأوسط وامريكا الوسطى”. مع أن الجمع بين المصدرين لا يمثل الواقع الإرهابي، لأن الإرهاب بكامل قوته وهيئته موجود في بلاد العم سام وبعض دول أمريكا اللاتينية بإعتبارها موطن المخدرات والمافيات والجرائم المنظمة. ولم تكن منطقة الشرق الأوسط تمثل أي تهديد إرهابي لمصالح الولايات المتحدة وأوربا إذا إعتبرنا الهدف من الحرب هو المحافظة على المصالح العليا للولايات المتحدة الأميكية وأوربا في المنطقة. كما شارك ريتشارد بيرل وكان رئيسا لمجلس تخطيط السياسة الدفاعية في الولايات المتحدة زميله دوغلاس فيث الرجل الثالث في البنتاغون في كتابة دراسة عام 1996 لرئيس وزراء الكيان الصهيوني اليميني (بنيامين نتنياهو) تدعو لإسقاط نظام صدام حسين باعتباره هدفا استراتيجيا مهما للكيان الصهيوني على أساس إن مستقبل العراق يمكن أن يؤثر في التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط تأثيرا عميقا.
في كانون الثاني 2002 تغير تصنيف مصادر الإرهاب، فإستبعدت أمريكا الوسطى وحددت الدول حصريا في الشرق الأوسط. فقد صنف الكونغرس العراق بأنه جزءا من محور الشر إلى جانب إيران وكوريا الشمالية. مع إن الرئيس الأمريكي أعلن الحرب على الإرهاب فإن الإرهاب بمفهومة آنذاك كان يتضمن صيغة عامة كما جاءت في كراس للجيش الأمريكي وهو” الإرهاب هو استخدام أو التهديد باستخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية أو دينية أو أيديولوجية”. وإذا طبقنا المفهوم على الولايات المتحدة سنخرج بنتيجة مؤكدة بأن الولايات المتحدة هي دولة الإرهاب الأولى في العالمين الماضي والحاضر. وبالرغم من أن الولايات المتحدة عرفت الإرهاب لاحقا وفقا لقانونها( U.S Code. Section 2656f”d” ) بأنه” العنف المتعمد المدفوع بعوامل سياسية والمرتكب ضد أهداف مدنية على أيدي جماعات لا تتمتع بالمواطنة أو عملاء سريين. ويكون هدفه عادة التأثير في جمهور معين”. فإن المعنى لا يزال غامضا ومرنا كالطين المطاوع يمكن تفسيره كيفما شاءت إدارة البيت الأبيض. وقد اصدر الرئيس بوش في 24/10/2001 قائمة بأسماء (11) منظمة ارهابية هي القاعدة/ جماعة ابو سيف/الجماعة الاسلامية المسلحة في الجزائر/ حركة مجاهدي كشمير/ حركة الجهاد في مصر/ الحركة الاسلامية الاوزبكية/ عصبة الانصار اللبنانية/ المجموعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر/ مجموعة القتال الاسلامية الليبية/ الاتحاد الاسلامي الصومالي/ جيش عدن الاسلامي في اليمن اضافة الى(12) شخص واربع منظمات خيرية. وجميع ما ذكر ليس له علاقة بحربه على الإرهاب في إفغانستان والعراق فيما بعد!
تأريخ إرهابي مميز لمن يحارب الإرهاب
الذي يمارس الإرهاب لا يمكن أن يحاربه، والذي يمثل تأريخه تأريخ الإرهاب لا يمكن ان يقود العالم لمحاربة الإرهاب. هذا عرض مبسط وعينات من الممارسات الإرهابية للولايات المتحدة في دول العالم. تؤكد بأن الإرهاب جنين مسخ ولد من رحم الولايات المتحدة. منذ قيام الولايات المتحدة ولحد الآن إرتكبت قواتها العسكرية جرائم حرب وإرهاب لا تُعد، وهي ترفض أن تخضع قواتها لمساءلة المحكمة الجنائية الدولية بغطرسة وعنجهية، لأنها تعرف حقيقة جرائم قواتها.
في عام 1730 أصدرت الجمعية التشريعية لمن يسمون أنفسهم البروتستانت الأطهار تشريعاً يقنن عملية الإبادة لمن تبقى من الهنود الحمر، شمل التشريع مكافأة مقدارها 40 جنيهاً مقابل كل فروة رأس مسلوخة من هندي أحمر وارتفعت بعد 15 سنة إلى 100 جنيه. ثم وضع البرلمان البروتستاني بعد 20 عاماً تشريعاً جديداً نص على ” فروة رأس ذكر عمره 12 عاماً فما فوق 100 جنيه ،وفروة رأس الطفل أو المرأة 50 جنيهاً”.
في عام 1763 أمر القائد الأمريكي (جفري أهرست) برمي بطانيات كانت تستخدم في مصحات علاج الجدري على تجمعات الهنود الحمر لنشر الوباء بينهم، مما نتج عنه موت عشرات الألوف من الهنود الحمر. ومن الغريب اطلاق الامريكان تسمية الاباتشي والكومانشي والتوما هوك على الطائرات الحربية فالاباتشي والكومانشي من القبائل الاصلية التي ابادها المستوطنون الجدد من البيض! والتوما هوك هي البلطة التي كان يتسلح بها الهنود الحمر؟ وقد سخر تشومسكي من هذه الظاهرة بقوله” الولايات المتحدة تحتفل دائما بنجاح مؤسسيها بقطع الاشجار وقتل الهنود”. (النزعة الانسانية/150). كما اطلقت بريطانيا على احد قواتها اسم ( الغورخا) وهي تسميت تتعلق بشعب يعيش في جبال نيبال تعرض الى التطهير العرقي والابادة الجماعية على يد البريطانيين.
لم تجرأ دولة على هجوم نووي غير الولايات المتحدة وذلك في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 حيث قصفت مديتني هيروشيما وناكازاكي بعد رفض اليابان تنفيذ نصوص (إعلان مؤتمر بوتسدام) الذي طالبها بالإستسلام بلا شروط. وبلغ عدد ضحايا المدينين المنكوبتين ما يقارب الربع مليون. وفي الحرب الكورية عام 1950 قتلت القوات الأمريكية المئات من المدنيين أغلبهم من الأطفال خلال ثلاثة أيام فقط.
نشرت مجلة نيويورك تايمز في 8-11-1997أن العدد الحقيقي للقتلى الفيتناميين من الغزو العسكري الأمريكي هو 2.6 مليون قتيل، وقد تسبب قصف مدينة هانوي وحدها عام 1972 في إصابة أكثر من 30 ألف طفل بالصم بفضل الحضارة الإنسانية الأمريكية! في حين تشير المصادر الفيتنامية بأن عدد القتلى خمسة ملايين من بينهم أربعة ملايين من المدنيين.
في غواتيمالا قتل الجيش الأمريكي في الفترة من عام 1966 إلى 1986 نحو 150 ألف مزارعا وليس جنديا! كما وصفت( اللجنة المركزية المينونيتية) وهي تعمل في لاوس منذ عام 1977 القصف الامريكي للاوس بأنه ” معظمه يستهدف الاطفال وان نصف الأموات هم من الاطفال” كما وصفها ماركوس وارن بقوله ” الحرب الامريكية غير المعلنة التي تقتل الاطفال” ووصفها رونالد بولادسكي ” القنابل الامريكية المقذوفة من السماء تشوه وتقتل الاف الضحايا الابرياء ومعظمهم من الاطفال”. وفي عام 1982 قامت اسرائيل بهجوم غادر على لبنان ادى الى قتل (20)الف لبناني ودمر جزءا من لبنان مدعوما من الولايات المتحدة. وعام 1993 شن اسحق رابين هجوما على جنوب لبنان مما ادى إلى نزوح (500) ألف مواطن. علاوة على جريمة امريكا في دعم الارهاب الحكومي في السلفادور والذي اجج العنف عام 1989 ودعم فوج اتلاكاتل السلفادوري الذي تدرب في امريكا وقام بمجازر فظيعة منها اغتيال الاسقف روميرو عام 1980 مع عدد من الرهبان. وقتل المثقفين السلفادوريين عام 1989 . في سؤال وجهته القناة التلفزيونية الامريكية العامة عام 1996 لمادلين اولبرايت عن ردٌة فعلها ازاء مقتل نصف مليون طفل عراقي خلال خمس سنوات بفعل الحصار الاقتصادي أجابت المقبورة بكل وقاحة” لقد كان خيارا صعبا، ولكن بالنسبة الى الثمن اعتقد ان الامر يستحق هذا الثمن”!
تحدث المحلل ( ريتشارد داودن) في صحيفة الاندبندنت في ك1/1998 عن” إصابة 6000 الى 8000 صومالي في صيف عام 1993 وكان ثلث الضحايا من الاطفال والنساء رغم ان التقديرات الحقيقية تضاعف هذه الارقام. وصرح الجنرال الامريكي ( انتوني زيني) قائد العمليات في الصومال للصحفيين” لا أعد الجثث فهذا الأمر لا يهمني”! وهذا القائد هو نفسه الذي قاد حملة القصف الامريكي على العراق عام 1998 وذكرت صحيفة نيويورك تايمز كانون الاول/1998 بأنه ” حساسا جدا تجاه القيم العربية”. كما دمرت الولايات المتحدة معمل أدوية الشفاء في السودان عام 1998 بذريعة سخيفة على أساس إنه ينتج أسلحة كيماوية تزود به أسامة بن لادن. وادعى البعض أن ابن لادن من الشركاء في ملكية المصنع، وبعدها تبين انه ليس لإبن لادن أي علاقة بالمعمل، وأن المعمل لم يكن ينتج أسلحة كيماوية. وفي الحرب اليوغسلافية عام 1999 أدى القصف الأمريكي إلى قتل خمسة آلاف من المدنيين فقط، وأعتبرت جريمة حرب من قبل خبراء القانون الدولي.
كما قامت القوات الاندونيسية بمساعدة بريطانيا والولايات المتحدة بقتل ما بين ربع الى ثلت سكان تيمور الشرقية. وقدرته صحيفة ايكونوست بحولي(250) ألف شخص خلال مذابح جماعية. وعندما اضطرت الحكومة الاندونيسية عام1999تحت ضغط مجلس الامن ومحكمة العدل الدولية الى اجراء استفتاء لتحقيق حكم ذاتي لتيمور الشرقية وفازت القوى المطالبة بالاستقلال قام الجيش الاندونيسي باعمال عنف وارهاب لتغيير نتائج الإنتخابات. وقد وصف الكاتب الاوسترالي برايان وودلي الميليشيات التابعة لجيش الاحتلال الاندونيسي بأنها” كتائب موت منظمة جدا اطلقتها ايادي مخفية أو شبه مخفية” مضيفا ” ان هذه الميليشيات هي في حقيقة الامر امتداد لجيش الاحتلال الاندونيسي”. (النزعة الانسانية- تشومسكي/68).
ناهيك عن ملايين القتلى عن طريق مخططات وكالة المخابرات الأمريكية عبر الإنقلابات العسكرية والحروب الأهلية وبقية العمليات الإرهابية. منها قيام كتيبة (اتلاماتل) المرتبطة بالوكالة عام 1981 بقتل ألف مدني في السلفادور وإغتصاب المئات من النساء. والهجوم على غرينادا عام 1982 الذي خلف الآلاف من القتلى. وغزو بنما عام 1989 لإعتقال الجنرال مانويل نوريغا ومحاكمته في الولايات المتحدة. علاوة على إستخدام اليورانيوم في حروبها ومنها العراق. فقد كشفت صحيفة نيويورك تايمز في 17/2/1993 عن إستخدام القوات الأمريكية يورانيوم في عدوانها على العراق وكان أكثر الضحايا من الأطفال. علاوة على الحصار الإقتصادي الذي أودى بحياة أكثر من مليون عراقي لغاية عام 1997 غالبيتهم من الأطفال. وإنتهاءا بالحرب على إفغانستان التي خلفت حوالي مائتا ألف قتيل والعراق حوالي مليون شخص غالبيتهم من المدنيين.
للحديث تابع بعون الله.