المركز والهامش اصطلاحان يدلان على ثقافتين انتجتهما كلاً على حدة دراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية؛ بيد أنّ الخطاب الثقافي ما بعد الحداثي دمجهما في ثقافة واحدة فيها غدا المركز هو الهامش والهامش هو المركز. وكان من تبعات الدمج في فهم تجليات الهامش المتمركز ومعاينة تمظهرات المركز المتهمش أن تعالت مفاهيم الانفتاح والتعدد في التمثيل للوعي الانساني أياً كان هذا الوعي وفي أي بقعة من بقاع العالم..والحاضن لهذه المفاهيم ثقافي مستحدث في قيمه وهو يسعى إلى تجسيد معطيات الجمال أو على الأقل بلورتها وتوكيدها، مفترقاً بذلك عن الحاضنة الرسمية البطرياركية التي هي عتيدة في رسوخها ومتجذرة في أسسها وامبراطورية في مواضعات فهمها للإنسان وفي تبعات التقوقع في رؤية العالم، حاصرة الميدان الثقافي في أفق هرمي فيه القمة مخصوصة ومنتخبة ومحجوزة للقلة التي هي عادة ما تكون فوقوية النظر ونخبوية التصدر ومركزية التسلط بالنفاذ والانتصار والغلبة. وأما القاعدة فيمثلها العموم الجماهيري والشعبي على وفق تصور جماعي بامتداد طولي عام وطرفي يلزم العموم بالتابعية والموالاة والقبول بالتناسي والمغالبة.
وما كان لهذه الحاضنة أن تتضعضع صورتها الرسمية لولا انهيار مقومات الفكر الإمبراطوري وانكشاف أهدافه الاستعمارية والتوسيعية مقابل صعود مقولات القوة الناعمة ما بعد الاستعمارية وتنامي النزعات الثقافية والحركات الفكرية المطالبة بالانفتاح والاندماج والمساواة التي فيها يغدو للهامش حضورا سواء بالتهجين أو المعايشة. هكذا تراجعت القوة الخشنة الاستعمارية ولم تعد هناك هرمية ثقافية فيها قمم وأطراف أو موانع وحدود لا يجوز تخطيها أو التعدي على ثوابتها كما تداعت الرؤى الفكرية الانغلاقية التي فيها الغلبة والرجحان للأقوى والاخضاع والاستغلال للأضعف، وانزاح قانون الغاب المتسلط أمام قانون التسامح والتطلع البنّاء إلى مستقبل إنساني جديد فيه تنعم البشرية أفرادا وشعوبا بحياة متحضرة خارطتها واحدة لا تمييز فيها لهوية على هويات كما لا تقسيم فيها لأقليات وأثنيات وأعراق ولغات ولا موجب لوجود محاور وأقطاب ونخب بامتيازات واستثناءات.
وعلى الرغم من أن ثقافة المركز الذكورية المنعزلة الغربية البيضاء وبتاريخها العريق قد ثبّتت أساسات قوية من الصعب زحزحتها أو خلخلة مواضعاتها، فإنّ الحاضنة الثقافية الانفتاحية بفتوتها ونضارة مساعيها صارت اليوم قادرة على إثبات نجاعة تموضعاتها وهي تدحض ثبوتية المراكز ورسوخها بدينامية الهوامش وسيولة اندماجيتها.
وقد صيرتها مراهنتها على فاعلية توجهاتها هذه، متفوقة على الفكر المتربولي الاستعماري واستقطاباته الكبرى وما فيها من مفاهيم التوسع والاستيطان لتسود محلها مفاهيم العولمة والكوزموبولتية التي فيها الهوامش مهيمنة كهيمنة المراكز التي قبلت أن تتنازل عن تعاليها في صورة توافقية تنعم بالتنوع والانفتاح كشرطين لازمين من شروط التفاعل الحضاري البنّاء.
ولأن الوقوف عند حافة الهامش لم يعد قائماً في الأرجح، صار التسمر في المركز غير متاح ولا ممكن ببداهة التفاعل الحياتي ومقتضيات التعايش والتحاور والتقريب المناوئ للكراهية والتآمر والتخوين مما عبر عنه ميشيل فوكو بـ(المراقبة والمعاقبة).
وبوجود ثقافة واحدة يندمج فيها المركز بالهامش تتطور الرؤى ويتنامى الوعي قويا وهو ما تجلى على أيدي منظرين ونقاد ما بعد كولونياليين قدموا نماذج حيوية لانماط حياتية من خلال نظريات ومنهجيات وممارسات تؤكد بمجموعها فاعلية تبني الثنائيات مهما كانت متضادة وجدوى التوازن في امتلاك السيادة أو عدم امتلاكها وأهمية التجانس الحي في التنوع الثقافي مهما كان هذا التنوع متباينا ومختلفا زمانيا ومكانيا بحركة رؤوس الاموال وهجنة الشركات وبطريقة ناعمة ثقافية وبمزاج السوبرماركت المعولم.
من هنا صرنا نواجه موضوعات كانت تُعد في عُرف ثقافة المركز طرفية وهامشية من قبيل ثقافة نسوية وثقافة الطفولة وثقافة شعبية وثقافة شفاهية وثقافة الجنون وثقافة الوهم وثقافة الجهل والفقر والجنس والحرف اليدوية والسجن والعنف والإبادة.. الخ.
وهذه الثقافات جميعها تتمتع بمركزية تضمن لها الرفعة والصفوة والانتاجية التي معها تتميع ثوابت ما رسخته الحاضنة الرسمية المركزية عن هذه الهوامش من سمات الوضاعة والتابعية والاستهلاك والأقليّة والفرعية وغيرها.ومن أشهر المنظرين الذين مركزوا الهامش ودشنوا محوريته انطوينو غرامشي الذي اخترق بتنظيراته نخبوية المعرفة التي صار طبيعيا فيها وجود ثقافة عالية وثقافة متدنية، وغرامشي هو أول من أطلق مصطلح التابع مدللا على العمالة الريفية والبروليتارية. واجترح دريدا مفاهيم مستحدثة قلبت اللوغوس الغربي وفككته بالتأجيل والإرجاء والاختلاف والتكرار، فقدّم الكتابة على الكلام والمؤنث على المذكر.
وتعد طروحات والتر بنيامين عن سيرورة التفكير الديالكتيكي ومقولات ميشيل فوكو الحافرة في السلطة والمعرفة والجنون والجنسانية ومفاهيم ومنظورات أخرى كثيرة طرحها فلاسفة ومفكرون ونقاد آخرون بمثابة أرضيات أتاحت للهامش أن يتمركز بقوة. ولعل هومي بابا هو الأكثر ميلاً الى إعلاء ثقافة الهامش لا بسبب تجربته الخاصة في الهجرة واللجوء حسب وإنما ايضا إحساسه الصميم بالتبعثر الذي يجمع اللاجئين على حافات ثقافات اجنبية ليكونوا هم الشتات في فضاء الهجنة والتجاذب والانشطار والاختلاف والتعدد.
فرفض المفاهيم المتربولية الغربية بقوالبها الأصولية وما فيها من ديناميات التسلط والاخضاع متأثرا أولا بميشيل فوكو وما دعا إليه من إعادة التفكير في طبيعة القوة والسلطة، ومناصرا ثانيا أفكار بندكت اندرسن عن الجماعات المتخيلة حيث الامة جماعة سياسية متخيلة وليست خيالية فهي حقيقية وواقعية وأن الناس لا يتخيلون شيئا من العدم لاحتياجهم الى أدوات ناشئة تاريخيا، ساخرا من مركزية الرأي المتهافت والمؤذي الذي يقول: (إن النظرية هي تلك اللغة النخبوية التي يلهج بها أصحاب الامتياز الاجتماعي والثقافي وأن لا وجود لناقد أكاديمي خارج الاراشيف الاوربية المركزية) وسبب سخريته هو ما في هذا الرأي من صورة نمطية محنطة باستراتيجية خطابية كبرى تقوم على أساس التمييز الفكري والعرقي والجغرافي، عاداً سرديات الامبراطورية من قبيل الطبيعة /الثقافة والفوضى/ المدنية مجرد هراء كولونيالي.
وما كان لهومي بابا أن يطرح اصطلاح (تشتيت الهوامش) لكي يؤيده بل ليدحضه، مؤكدا أن هذا التشتيت الذي كان طبيعيا ومعتادا في زمن الأمة الحديثة التي فيها الشعوب أما مهاجرة أو متربولية تعيش ضمن فضاء ثقافي هرمي، أصبح اليوم في ظل مرحلتنا ما بعد حداثية مفككا ومقولبا رأسا على عقب برؤية انفتاحية فيها زمن الامة ثقافي باستراتيجية مهجنة وبينية وفي صورة عمودية لا هي هرمية ولا هي أفقية؛ بل هي مستعارة ومتخيلة، يتداخل فيه المكان والزمان وتتعدد أو تتداخل فيها الهويات واللغات والحضارات.