استقالة نواب التيار الصدري من البرلمان هي واحدة من أعراض اشتداد الأزمة السياسية، أو لنقل إنَّها أزمة السلطة السياسية منذ غزو العراق واحتلاله. وحتى لو فرضنا جدلا حالة عدول التيار الصدري عن تلك الاستقالات، فليس بإمكانه محو مشهد الأزمة السياسية، وأكثر ما سيفعله هو التخفيف من أعراضه، والمد بقليل من عمر العملية السياسية، التي بات وجودها وأسسها يتناقضان مع وجود سلطة البرجوازية الحاكمة وأسسها كطبقة سياسية منسجمة بإمكانها إدارة نفسها وإدارة المجتمع.
أي بعبارة أخرى، إنَّ استقالة نواب التيار الصدري تأتي كتعبير صارخ عن عمق أزمة العملية السياسية، وفي وجهها الآخر تعبر عن أزمة السلطة السياسية، وتعكس دون أيّ مواربة اشتداد الصراع على السلطة السياسية، الذي يعد بمثابة صراع بين مشروعين ورؤيتين للطبقة البرجوازية الحاكمة في العراق وبأبعادها الإقليمية والدولية وانعكاسات تداعيات التحولات العالمية التي عنوانها الرئيسي اليوم هو الحرب الروسية على أوكرانيا، فالمشروع الأول مرتبط بالطبقة الحاكمة في إيران والتي تقف في الخندق الروسي والصيني والمشروع الآخر ذلك الذي يحاول إعادة العراق إلى ما يسمّى بـ”محيطه العربي” وهو مدعوم من قبل دول الخليج ومصر والأردن ومن خلفهم الولايات المتحدة وإسرائيل، وإن كلاهما أرغم على الانتظار حتى تلقي الحرب الأوكرانية أوزارها ويسدل ستارها، لأنَّ نتائجها النهائية من حيث الغلبة ستغير كل التوازنات الإقليمية والدولية في المعادلة السياسية في المنطقة.
أصحاب المشروعين غير قادرين على تصفية أحدهما للآخر وحسم مسألة السلطة السياسية، لا عن طريق سلاح الميليشيات ولا عن طريق الشارع كما تذهب التكهنات والتحليلات، ولو كان أيّ طرف من الأطراف المذكورة بإمكانه إزاحة الآخر لما تردد لحظة بالقيام بضربة استباقية وحسم مسألة السلطة السياسية لصالحه.
أما ما يذهب إليه المراقبون بأن الصدر يحاول الضغط عبر استقالة نوابه لحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، فهذا يعيني مثل صب الماء في برميل مثقوب، فالصدر يدرك أنَّه حتى لو فاز بكل مقاعد البرلمان فلن يكون بإمكانه تشكيل حكومة أغلبية، لأن الانتخابات أثبتت للمرة المليون أنها لا يمكن أن تكون خياراً لحسم مسألة السلطة السياسية في أي بلد مقسم إلى مناطق نفوذ ميليشيات، وفي بلد لا يوجد فيه عنوان لأيّ دولة بالمعنى القانوني والهوياتي والسياسي، وإنَّ الانتخابات أكبر كذبة غلفت بعنوان “الديمقراطية” وتم الترويج لها في سوق ليس فيه موادها الاحتياطية أو قطع غيارها، لذلك فإنَّ الصدر يدرك جيدا أنَّ حل البرلمان أو الذهاب إلى انتخابات جديدة لن تفضي إلا إلى السيناريو الحالي، لأنَّ من يمتلك السلاح هو من يساهم بشكل أو بآخر برسم سيناريو تشكيل الحكومة، وأكثر من ذلك أنَّ من يعتقد أنَّ تشكيل حكومة أغلبية من خلال العملية السياسية القائمة اليوم والتي بنيت على أساس المحاصصة السياسية، فهو بكل بساطة قرر البقاء في صف من لا يريد التعلم ليبقى بالنهاية في مقدمة جوقة السذج الذي يصفون أنفسهم بالليبراليين، لأنَّ كل شيء في العملية السياسية بدءا من قانون الانتخابات ومروراً بالمفوضية العليا للانتخابات وانتهاء باختيار الرئاسات الثلاث وغطائها القانوني المحكمة الاتحادية أرسيت على أساس المحاصصة، وعندما أراد تحالف “إنقاذ الوطن” الثلاثي من الصدر- الحلبوسي – بارزاني المضي بتشكيل حكومة أغلبية، وقفت لهم المحكمة الاتحادية بالمرصاد لتنقذ حصة ما يطلق عليه بـ”المكون الأكبر الشيعي”، مثلما فعلت من قبل في انتخابات 2010 وألحقت الهزيمة السياسية بتيار أياد علاوي الذي لم يقم له قائم منذ ذلك الوقت.
إنَّ معضلة الطبقة البرجوازية الحاكمة في العراق (أصحاب شركات فلاي بغداد وآسيا سيل وكورك وزين ومصافي النفط والمصارف والجامعات والمدارس الأهلية ومعامل الدواجن والألبان وشركات التصدير والاستيراد، والشركات التي ازدهرت في مناخ السرقة والفساد)، هي عدم انسجامها السياسي مع وجود معضلة بنيوية في سلطتها السياسية، وهذه المعضلة هي جوهر العملية السياسية نفسها.
فهذه العملية ليست بإمكانها حتى تلبية حاجات جناح من البرجوازية التي يمثلها اليوم التيار الصدري، فالعراق ليس لبنان، والأخير قابل أن يستمر إلى فترة طويلة بالنظام السياسي القائم، أمّا العراق فهو يحتل موقعا حساسا في معادلة تقسيم الإنتاج الرأسمالي العالمي، وهو صناعة النفط، وهذه المكانة أو الموقعية تفتح آفاقا واسعة أمام تطلعات الطبقة البرجوازية ببعدها المحلي والإقليمي والعالمي، وهذه المكانة تتناقض والاستمرار بنظام المحاصصة السياسية مثلما جرت عليه العادة في السابق، وخلال أكثر من سنة ــ من صعود حكومة مصطفى الكاظمي على أكتاف انتفاضة أكتوبر، والتي تمثل تطلعات الجناح إعادة العراق وربطه بالمحيط العربي ــ تم توقيع اتفاقيات بالمليارات من الدولارات مع السعودية والإمارات ومصر والأردن، على أنَّ تنفيذ هذه الاتفاقات في حاجة إلى استقرار سياسي وعراق موحد برأس واحد وليس بعدة رؤوس، هذا ناهيك بأن الجماهير العمالية والكادحة المليئة بالغضب والسخط من كل العملية السياسية وأطرافها لن تقبل استمرار حياتها بالطريقة القديمة ولذلك تستمر عمليات المقاومة بأشكال مختلفة ضد النظام السياسي القائم. وقد ردت الجماهير على الطبقة الحاكمة مرة عبر انتفاضة أكتوبر العظيمة، وعندما لم تصل إلى أهدافها التي خرجت من أجلها، إذ قدمت تضحيات كبيرة، ذهبت إلى المقاطعة الكبيرة للانتخابات بنسبة وصلت فوق 86 في المئة ومن ثم الاستمرار بالاحتجاجات التي كانت آخرها هذه الأيام، إغلاق أبواب جميع الشركات النفطية في البصرة من قبل العاطلين عن العمل.
ولذلك نرى أنَّ الطبقة البرجوازية في العراق في ورطة من أمرها ولا يستطيع أيّ طرف منها نسف العملية السياسية. وحتى الصدر نفسه يحاول إصلاح العملية السياسية وليس القفز عليها، فهو كان يعمل على مدى ما يقارب من أربع دورات برلمانية بمثابة سيارة إسعاف كما يصفونه في إنقاذ العملية السياسية. ومنذ انتفاضة فبراير 2011 كان التيار الصدري يهرع إلى تنظيف ساحة الحكومة بدءا من حكومة المالكي، عندما دعا مقتدى الصدر إلى إعطاء فرصة 100 يوم لحكومة نوري المالكي للقيام بالإصلاحات من أجل الالتفاف على الانتفاضة وإجهاضها، والجدير بالذكر أن بهاء الأعرجي الذي كان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء حينها وكان من قياديي التيار الصدري قبل أن يطرد بعد أن أمست رائحة فساده تزكم الأنوف، اتهم المتظاهرين مدعياً أنَّ البعث والقاعدة يقفان خلف الدعوة للتظاهر ضد الفساد والبطالة وإلغاء مادة 4 إرهاب والكشف عن المغيبين.. الخ، التي كانت من بين مطالب تلك التظاهرات، وفي تظاهرات يوليو 2015 نزل التيار الصدري بكل إمكاناته في ساحات التظاهرات لإنقاذ حكومة العبادي بعد أن تم رفع شعار “باسم الدين باكونا الحرامية”، “من دخل بيها أبوالعمامة صار البوك للهامة”، وانتشر الشعار كالنار في الهشيم في جميع مدن العراق، وفي تظاهرات المنطقة الجنوبية في يوليو 2018 لم تستقبل الجماهير مقتدى الصدر في البصرة، وفي انتفاضة أكتوبر استخدم ميليشياته القبعات الزرق في قمع المتظاهرين بالتنسيق مع القوات الأمنية لحكومة الكاظمي.
إن معضلة السلطة هي معضلة بنيوية كما أشرنا وهي في حاجة إلى إنهاء عمر هذه السلطة، وليس بإمكان لا الصدر ولا ميليشياته المضي قدما نحو هذا الهدف لأنه ليس من مصلحته، كونه جزءا من منظومة العملية السياسية حتى وإن حاول تغير جلده.
وأخيرا من يستطيع انتشال الوضع السياسي في العراق من هذه الأزمة هم العاطلون عن العمل وعمال العقود والأجور والنساء التواقات إلى الانعتاق والحرية والأقسام الاجتماعية الأخرى التي حرمت من حق التعليم والصحة والسكن اللائق، فهؤلاء كانوا العمود الفقري في انتفاضة أكتوبر، وذلك عبر تنظيم احتجاجاتهم وتوحيدها وتنظيمها عبر انتفاضة أخرى ولكن هذه المرة بآفاق مستقلة وتذهب هي لتشكيل حكومة ثورية مؤقتة منبثقة منها وتحقق برنامجها في الحرية والرفاه والمساواة.