من الصعوبة بمكان أن تجد هذه الأيام مسؤولا رفيعا أو عريضا (وزيرا كان أم نائبا وما بينهما صعودا أو نزولا مدنيا أم عسكريا) يتمتع بمصداقية القول والفعل، ونظافة اليد والجيب والعقل، إلا ما شاء الله وكان وجوده اقرب إلى معجزة أو صدفة تاريخية لها علاقة بتربيته أو إيديولوجيته، وهي ليست في صالحه بالتأكيد، وهو في وسط ملوث أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الانصياع لذلك الجو والسقوط في غياهبه، أو مقاومته بأي وسيلة من الوسائل، وتلك بربي أصعب أنواع الجهاد كما يقول علماء الدين!؟
وإذا اعتبرنا نظام صدام حسين وما قبله مدرسة من مدارسة تخريج هذا النوع من المسؤولين، على خلفية الشماعة التي نعلق عليها كل هذه المظاهر وغيرها، فان ما شهدناه خلال السنوات العشر الماضية أكد بشكل لا يقبل النقاش أو الشك، صدق ودقة المثل القائل إن ( الخلفة ) أو التلميذ يتجاوز الاوسطة أو المعلم، بل انه يتفوق عليه بابتكاراته وتفننه، حيث ابتكر المسؤولين الجدد والمخضرمين، أساليب أكثر حداثة وفهلوية من الأساليب أيام الأنظمة الدكتاتورية، فقد تحولوا بين ليلة وضحاها إلى أكثر مؤيدي النظام الجديد تأييدا ومزايدة، وخاصة اولئك المقربين من مراكز المال والسلطة، والذين شهدناهم في الساعات الأولى لسقوط النظام وكيف بدأوا بحملة منظمة لنهب العراق في أبشع عملية سرقة وطن في تاريخ البشرية تحت شعار الحواسم، حيث شهد كل منا في محلته أو قريته أو مدينته كيف بدأت عمليات السلب والنهب حتى تحولت هذه الخاصية أو الثقافة إلى سلوك ووظيفة لأكثرية من تولوا مسؤولية ما في النظام الجديد.
والعجيب انك بعد عدة سنوات تراهم يتحدثون عن الصدق والنزاهة واعمار البلاد، وقد تسلقوا مناصب مهمة تحت قبة البرلمان أو بين أحضان السلطة التنفيذية بكل أشكالها المدنية والعسكرية، في تشكيلة لقيادة البلاد لا مثيل لها منذ تأسيس الدولة وحتى يومنا هذا، فمن لم ينجح بالوصول إلى كرسي الوزارة أو ملحقاتها، طرق صناديق الانتخابات في وطن العشائر والشيوخ والأغوات الذين ما تغيروا عن نهجهم في كل الأزمان، فهم على طول الخط منذ الأزل يقولون إننا مع الحاكم لحماية المحكوم(!)، حيث رأيناهم حول الزعيم عبدالكريم، ثم ما لبثوا أن يحجزوا مواقعهم حول الرئيس المؤمن عبدالسلام وأخيه المسكين عبدالرحمن، وكانوا أسرع من الضوء في الالتفاف حول البكر وربيبه صدام التكريتي، الذي صنفهم إلى ثلاث موديلات من الشيوخ ( أ و ب و ج ) وحولوا العراق وتاريخه وعمقه و ( حزبه القائد ) إلى عشيرة بائسة بكل ما تعنى الكلمة من معاني.
واليوم وبعد عشر سنوات من انهيار نظام صدام حسين وثماني سنوات من مصارعة الثيران الديمقراطية، في بلاد تغص بالتخلف، وتشتت الانتماء وتمزق أنسجة المواطنة لحساب دشاديش العشائر والمذاهب، تتبارى منذ الآن جوقات وكروبات جديدة من (الكلاوجية والفهلوية) ومساحي الجوخ من الانتهازيين والمتملقين من جامعي أموال الرشاوي والسحت الحرام، بالتعاون مع بعض المسؤولين المتمرسين بالفساد والإفساد وهم يمتلكون مجاميع من مفاتيح المال والنفوذ، من اجل تولي مناصب المشهد السياسي القادم، بعد أشهر من الآن بدعم من مفاصل مهمة في الحكومة وغيرها ممن يمتلكون مفاتيح السلطة والمال، الا إن ما يجري الآن يدفع إلى الرأي العام أسئلة مريرة، تدور دوما حول خيارات الناخب وقراءاته لحقيقة ما يحدث اليوم ومنذ ثماني سنوات مقارنة مع واقع الحال ووعود اولئك ( الكلاوجية )* الذين منحهم صوته على أنغام وعودهم وفهلوياتهم وعزائمهم، واكتشف أنهم أصلا بحاجة ماسة إلى تأهيل تربوي واجتماعي وأخلاقي!؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كلاوجية تعني باللهجة المصرية الفهلوية