لم يصادف، على امتداد التاريخ البشري الطويل العريض أنْ حدَث غزو خارجي لأمة من الأمم ثم بحث الغزاة عن أشرف رجالها وأرجلهم وأشجعهم وأعلمهم وأكرمهم، وأصدقهم وطنيةً، وأكثرهم استقامةً ونزاهة، ليجعلوه معتمدهم ووكليلهم الذي يعاونهم على حكم الوطن المحتل، وترويض شعبه المستباح.
بل كان أولَ مَن يبحثون عنه هو الخسيسُ الجاهل الجائع المعروف، منذ نعومة أظفاره، باستعداده للخيانة والظلم والسرقة والاحتيال، فينصّبونه زعيما ورئيس حزب وقائد مليشيا، ويُسهلون له سبل الاختلاس والنهب والسلب ليصبح من أصحاب الثروات الطائلة التي تساعده على استئجار أعوانه المتمرسين في إعانة الظالم على ظلمه، والسارق على سرقاته، والقاتل على القتل، والمتوافقين مع من بيده الحكم والثروة والسلاح على الإثم والعدوان.
والعراق مثال فريد في ذلك. فمنذ أن دخل المغول عاصمته بغداد، بقيادة هولاكو سنة 1258 ميلادية، ودمروها، وقبضوا على خليفتها العباسي المستعصم بالله، وقاموا بركله بالأرجل إلى أن مات، وهو على هذه الحال. يدخله غزاة، ويخرج منه غزاة.
وفي عصرنا الحديث، ومنذ إسقاط الدولة العراقية، 1958، وقتل العائلة المالكة برمتها، وتعليق جثة الوصي عبد الإله على واجهة وزارة الدفاع، وسحل جثة الباشا نوري السعيد في الأزقة والشوارع والحواري، والشعبُ العراقي يصحو على انقلاب، ثم يمسي على انقلاب، ويموت قادتُه، الواحد بعد الآخر، حرقا أو خنقا أو شنقا، حتى يومنا الأسود هذا.
وتعرفون الحكاية من أولها وبكل تفاصيلها. فقد تمسك الغزو الأمريكي بالقادة الذين منحهم الجمل بما حمل، وهو عالمٌ بأنهم منافقون، مزورون، جياع مال وسلطة، ومتيقنٌ من أن ولاء أكثرهم وأقواهم هو دولة إيران الطائفية الطامعة في العراق وموقعه وثرواته، ومن أن ولاءَ الباقين منهم لدول ولأجهزة مخابرات أجنبية أخرى عديدة ومتنوعة.
ثم ورث الغزو الإيراني رفيقه وحليفه الغزو الأمريكي، فزاد من احتضانه ورعايته وحمايته لقادة العملية السياسية، جميعهم، شيعة أولا، وثانيا سنة وكردا، ممن لا يَعرف عنهم عفة ووطنية وشهامة وخلقا رفيعا، فنصَّبهم رؤساء ووزراء وسفراء وقضاة وقادة جيوش. وجعل عليهم سيدَهم قاسم سليماني لقيادتهم وتوجيههم وضبط حركاتهم وسكناتهم، وبلا حدود.
والمعروف أنه كان يعلم بسرقاتهم وتعدياتهم ومظالمهم، فيتستّر عليها، ويشجعهم على ارتكابها، ويمسك عليهم وثائقها وملفاتها ليجعل منها حبالا يربط بها رقابهم، ويستخدمها لخنقهم عند حاجته لذلك.
ولو استعرضنا سجل كل واحد من قادة العراق الحالي، ومنذ العام 2003 وحتى اليوم، لتأكد لنا أن أكثرهم عبيد مستأجَرون على خراب ديارهم، وإفقار محافظاتهم، وإذلال مواطنيهم، لإرضاء السيد المطاع القابع وراء الحدود.
وآخر ما في هذا الوطن العراقي الحزين من مضحكات ومبكيات خروج واحدٍ من أصحاب البيت الشيعي الحاكم، هو عمار الحكيم ليحذر أمريكا “من الآثار الكارثية والخطيرة التي ستطال العراق نتيجة ممارسة الولايات المتحدة الأمريكية لسياسة خنقها لإيران، حكومة وشعبا”، وليدعو الحكومة العراقية إلى تقديم مبادرة وساطة بين الطرفين.
وفي كلمة له خلال الحفل التأبيني للذكرى العاشرة لرحيل والده عبد العزيز الحكيم الذي كان الأجرأَ من سواه من الموالين لولاية الفقيه ليطالب، علنا قبل وفاته، بإرغام العراق على دفع تعويضات لإيران عن خسائرها في حرب الثماني سنوات، قال عمار الحكيم “إن سياسة تصفير الصادرات النفطية الإيرانية التي تبنتها الولايات المتحدة الأمريكية تعني الانتقال من سياسة الضغط إلى سياسة الخنق لإيران ودولتها وشعبها، وسيكون لهذا المنحى آثارٌ كارثية وخطيرة على المنطقة، عموماً، وعلى العراق، بشكل خاص، وهنا على العراق أن يعي هذه التطورات الخطيرة، ويتخذ المواقف المسؤولة لتجنب الكارثة”.ثم شدد عالملالي قبل أن يختنق. فها هناك ما يمكن أن يقال عن مثل هذا اللغو والهذيان؟