ما من أحد شكك باستقلالية القضاء القطري ونزاهته حين أصدر حكم الإعدام في حق ثمانية ضباط هنود سابقين بتهمة التجسس لصالح إسرائيل. الهند نفسها لم ترفع الصوت عاليا تنديدا بالقرار. وبالرغم من أن كل المعطيات الواقعية تؤكد أن القرار لن يُنفذ لأسباب تتعلق بطريقة تعامل الإنسان الخليجي مع فكرة الموت فإن الحكومة الهندية بذلت جهودا كبيرة من أجل التوصل إلى تفاهمات مع الحكومة القطرية أدت أخيرا إلى أن يُصدر أمير قطر قرارا بالعفو عن المحكومين. وهو ما كان متوقعا لا استجابة مباشرة لجهود الحكومة الهندية التي عبرت عن حرصها على سلامة مواطنيها من غير أن تستخف بالأمن والقضاء القطريين بل لأن هناك ظرفا إقليميا ساعد على إنقاذ الهنود الثمانية الذين سبق لهم وأن عملوا في شركة استشارية تعاونت مع السلطات القطرية في ما يتعلق بمشروع إنتاج غواصات في إيطاليا. حرب غزة هي التي صنعت ذلك الظرف الملتبس.
منذ أن بدأت حرب غزة في السابع من أكتوبر الماضي ودولة قطر تحتل مكانا محوريا في الوساطات التي بُذلت من أجل إيقاف تلك الحرب. كانت الولايات المتحدة التي ترتبط مع قطر بعلاقات إستراتيجية على اطّلاع على كل تفاصيل تلك الوساطات ولم تعترض لأنها تدرك جيدا أن الدوحة تملك ما يؤهلها للتفاهم مع طرفي الصراع. فهي وإن لم تطبع مع إسرائيل على مستوى افتتاح سفارات غير أنها لم تمانع في فتح مكتب تجاري إسرائيلي يديره دبلوماسيان منذ عام 1996 كما أن شمعون بيريز كان قد زار الدوحة في العام نفسه لافتتاح ذلك المكتب. وفي عام 2007 استقبل الأمير الأب بيريز وطلب منه فتح الاتصالات مع حركة حماس التي كانت قد استولت على السلطة في غزة وطردت ممثلي السلطة الفلسطينية منها. علاقة قطر بحركة حماس مكشوفة بالنسبة لإسرائيل. عن طريق إسرائيل تحول قطر الأموال التي تمول من خلالها الحركة الإسلامية. كانت هناك صفقة شعرت الحكومات الإسرائيلية وبالأخص حكومة بنيامين نتنياهو أنها تخدم أهدافها في تمزيق وحدة الشعب الفلسطيني وإضعاف السلطة الفلسطينية في رام الله.
ما الذي حدث لكي يعلن نتنياهو أن قطر ليست طرفا محايدا لكي تكون مؤهلة للوساطة بين حكومته وحركة حماس؟ تلك الشكوك استفاد منها ناريندرا مودي رئيس الوزراء الهندي الذي سبق له وأن عبر عن مواقف متضامنة مع إسرائيل بالرغم من أنه يعرف جيدا أن الملايين من مواطني دولته يحفظون كرامتهم في العيش من خلال الأموال التي تحول إليهم من أقربائهم العاملين في دول الخليج العربي. يشعر المرء أن مودي قد اتفق مع نتنياهو في الضغط غير المباشر على قطر من أجل إطلاق الجواسيس الثمانية الذين صار مشروع الغواصات القطرية السري بعد اعتقالهم مفضوحا. وهو ما يذكرنا بالمشروع النووي العراقي الذي لم تكن فرنسا نزيهة في الالتزام بشروطه بحيث استطاعت إسرائيل أن تغتال عددا من علمائه وتجهضه حين قصفت مفاعل تموز عام 1981 والذي كان قيد الإنشاء.
ربحت الهند في إنقاذ أرواح مواطنيها الثمانية. في الوقت نفسه لعبت إسرائيل دورا إيحائيا في عملية الإنقاذ تلك. فهل كانت إسرائيل تسعى إلى إنقاذ جواسيسها من خلال محاولتها إزاحة قطر من مكانها في عملية الوساطة ما بينها وبين حماس؟ ولأن قطر حريصة على إنقاذ حماس فإنها يمكن أن تتخلى عن عدالة قضائها ونزاهته من أجل أن ترضي نتنياهو ومودي معا. لعبة يخرج منها العرب خاسرين. فبعد أن تم الإيقاع بقطر في الفخ لم تملك إلا التسليم. ولكنه قرار مر لن ينفع أحدا بعد أن افتضح مشروع غواصاتها السرية.
صار الحوار اليوم على قدر واضح من الشفافية. ليست قطر في منجاة ممّن يتجسس عليها ولا تزال إسرائيل مهتمة بالتجسس على مَن تتعامل معه. نوع من الملاكمة تحت الخصر أو إذا أردنا استعمال الجمل السياسية يمكننا أن نقول إن هناك حوارا يجري تحت الطاولة من أجل إفراغ كل ما يحدث على السطح من معناه. قطر ستستمر في الدفاع عن قضيتها في غزة. بالقوة نفسها ستندفع إسرائيل لكي تملي حقها على الآخرين في الدفاع عن نفسها. أما الهنود الثمانية فقد وصلوا إلى بيوتهم.ليت غزة ترتاح وتريح بعد كل هذه الخسائر.