كنا صغارا.. وكان همنا الوحيد هو اللعب، حيث لاهم المعيشة ولاهم الأمان ولاهم المستقبل المجهول، ولاهم المفاجآت ولاهم يحزنون..! وكان الشاطر فينا من يبتدع كل جديد وغريب وغير مطروق من فنون الألاعيب في ساحة طفولتنا، للتغلب على أصحابه والفوز عليهم، لالشيء يذكر إلا لمجرد الإحساس بنشوة الفوز، ومن تلك الألاعيب لعبة الـ (ختيلان).وما رجوعي بذاكرتي سنوات طوالا واستذكاري هذه اللعبة تحديدا، إلا لما للعبة التخفي والاختفاء والتواري من عودة وحضور ملحوظ، وممارسة واسعة النطاق في ساحة ساستنا وأرباب الحكم وصناع القرار اليوم، بما يشبه البارحة الى حد كبير، مع فارق العمر والمسؤولية والنتائج، بل اضاف الأخيرون على اللعبة ميزة التخفي ليس عن الأنظار فحسب..! بل عن الظنون والشبهات والحدس والاتهام، وأقرب محطة تمارس فيها هذه اللعبة هي السرقات.
وقد اتخذ ممارسوها مكانا واضحا على مرأى الجميع، بعد ان كان السراق يتخذون مكانا قصيا، خوفا من الرقيب وتفاديا للعيب وابتعادا عن الحرام. ولايخفى على أحد مابات لهذا الجانب اليوم من انتشار كانتشار الهشيم في النار في كل مفاصل حياتنا، حتى غدت خبزة الحرام أسرع شواءً من خبزة الحلال، وأضحى مذاقها -لدى البعض- أشهى وألذ من قرينتها. كما أن حيز ممارسة السرقات كبر واتسع وتجاوز حدود الضمير والدين والأعراف وكذلك.. البلاد. وليست ببعيدة عنا عملية السرقة المنظمة التي زهقت بسبب إتمامها ارواح عشرات الألوف من العراقيين، تلك هي صفقة استيراد جهاز (السونار) لكشف المتفجرات. وقد علت الصيحات في بريطانيا التي تبعد عن العراق آلاف الأميال، والسبب هو تورط تاجر بريطاني في صفقة الأجهزة الكاشفة للمتفجرات (السونار) والتي تبين جليا وبإثباتات جهات مهنية، زيفها وعدم كفاءتها في أداء المهمة المتوخاة منها، ونال على أثرها ذاك التاجر عقوبة عشر سنين سجن على فعلته تلك. وعلى الرغم من ذلك لم تتخذ الجهات المسؤولة في العراق إجراءات على محمل الجد، حيال المتورطين في هذه الصفقة داخل البلد، بل كانت كرة الاتهامات تتقاذف من ساحة هذا السياسي الى ساحة الآخر، الذي بدوره لايتماهل في تحويلها بضربة (هداف) الى ساحة ثالث، هو الآخر لايقل عن مهارة (ميسي) في صد الكرات وتحويلها الى هجومية في هدف سياسي رابع، وهكذا تتوالى سلسلة الأشخاص من المسؤولين في مراكز عليا في الدولة، وهم في حقيقة الأمر ليسوا متهمين، بل (متخمون) في ريع تلك الصفقة وأرباحها، ان لم يكونوا قد عدوا العدة لصفقات جديدة بزوايا أخرى من زوايا البلاد، و (هبرات) كبرى من ثروات العباد، كأن تكون صفقة سكر تالف، او حليب فاسد، فضلا عن بسكويت الأطفال المنتهي الصلاحية، وصفقة السلاح الروسي، والقائمة تطول في العد والكم والنوع والكيفية والعائدية في السرقات والاختلاسات، وهي لاتنتهي بملف النازحين والسرقات التي طالت خيمهم وكرفاناتهم وأرزاقهم ومخصصات الإعانة المادية لهم، وكما أن (سرقة القرن) ليست الأولى، فهي حتما ليست الأخير، مادام السراق مستورين ولهم من يسندهم ويساندهم فيما هم ماضون فيه.
إذن هي ذاتها لعبة الـ (ختيلان) التي كنا نلعبها في صغرنا، إلا أن أبطالها كبار وذوو حيلة ودهاء، ولهم مشجعون على أرض الملعب، فيلعبون كما شاءوا مع القانون بتخفٍ شبحي واتفاقات مبطنة، في وقت تسيل دماء العراقيين عبيطة، أمام أنظار أجهزة الدولة المزيفة، وتحت عين الرقيب العشواء، بمشهد درامي حزين يتكرر مرات ومرات.