هل هي التربية التي أنشأت أخلاقنا وحددت سلوكنا وطرائق تفكيرنا أم هي مواريثنا تسللت لأرواحنا وأدمغتنا مع الوصايا الجديدة فنحن كما نرى أنفسنا وكما يرانا الناس؟ أم هي تصورات متمناة تأخذنا لما يرضي ولا يرضي؟أسئلة لا تبدو صعبة ولكنها أيضاً ليست سهلة ولا هينة، ولكي نتجنب خطأ الإجابة، ننحرف في أحيان لأسباب أخرى وجيهة هي أيضاً فنقول بما قالوا به من أن الإنسان –الوحش في الغابة ما يزال تتحكم فينا طباعه وغرائزه، وبسبب ذلك قد نلتذ بفريسه أو صيد أو قد نخسر فنلوذ أو نخزى ..
الحياة توالي شروعات، خلالها تجاوزات حدود ومغامرات صغيرة وكبيرة، وهي هذه ما نسميه ممارسة الحياة مع الاعتيادي اليومي كالأكل والشرب والنوم ..
معنى هذا أننا نكسب حينا ونفوز على المنافسين حيناً أو نتغلب على الخصوم وأننا نسقط في أحيان ونخيب في اكمال اعمالنا أو تحقيق نوايانا.نحن إذاً نواجه المتضادات ونعايش النجاح والأخفاق والعافية والعياء وحق يسند ويعين ومن يخون ويخذل، ونحن نعايش هذه وسواها، ولا جديد، وإذا كان من استياء، فسببه أننا نعول على غيرنا وننتظر المفرح أكثر من الصادم أو المخيب، لكنها جميعاً وهذا ما يعلمه الجميع، مفردات الحياة وما يتوجب علينا هو تقبلها جميعاً ما دمنا عرضة لها جميعاً، أو ما دمنا نعيش الحياة ونعمل ونرى ونخوض وندور فيها وبين أحيائها وتفاصيلها..
هل من خطأ في التربية، في استخلاصنا لما ورثنا فانتفاعنا ببعض منه كاننا المميزون بالخير وحده وبالجيد وحده وبالمبهج المفرح وحده؟ لا سبيل لمثل هذا الانتقاء ولا أحد يوماً أُعطيَ مثل هذا الامتياز، لا ملك ولا عبد، لا عاقل وحكيم ولا أحمق ولا من هو بنصف عافية أو بنصف بصيرة، الحياة حياة بمختلفاتها وهي كلها حياتنا …
ولأننا نعيش، نحتاج إذاً إلى استعداد لتقبل الناس حولنا، وهم بأمزجة مختلفة وقدرات عقلية وبدنية مختلفة ومستويات وعي متفاوتة، وأولاء نصطحبهم أو نعمل معهم أو نشاركهم في تخصص أو سفر أو سكن ..
جمال المخلوق البشري بالروح الإنساني فيه، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي تمتد عواطفه إلى ما حوله من جنسه ونوعه أو من سوى ذلك، ومن شجر وحجارة وماء وحيوان، وكم أسبغ من محبة على شجيرة ترعرعت أو على حيوان دجّنهُ أو جاء غريبا، فنال عطفاً ومحبة ..
لكن بعض الناس لا يحبون أحداً من حولهم ولا أحداً ممن يعملون معهم أو يشاركونهم في اهتمام، هو مسكون بنفسه ولا مكان لسواها وما يهمها أو ما تنتفع به. مدائحهم وكراهاتهم من تلك النفس. كل سبب أو مسوغ عدا ذلك عاطل. وأولاء لا يعنيهم أنهم يرون آخر جوارهم يسبغ المحبة واللطف حتى على البعيدين الغرباء ويتعاطف معهم آسفاً متألماً مما حدث لهم أو يحدث، ويتعاطف حتى مع أبطال الروايات والأفلام أو ما تذكره كتب التاريخ. ثمة ضيق إنساني هناك وسعة ورجاحة إنسانية هنا.
ومن النماذج الخيرة الخصيبة، من لا يريدون أن يهان من اساؤوا لهم، أو يُذَلوا ، الرأفة هنا تسبق الشماتة، بل قد يصل العطف حد تمني القدرة على انقاذهم أو إيقاف الأذى، أن يُرحموا ويُعفى عنهم! إنسانية الإنسان تقاس بمدى عمق وشمول عواطفه. فيا لعمق وسعة عواطف ذلك الرجل الذي قال عن الكلب الذي افترس ببغاءه الجميلة العزيزة عليه : مسكين كان جائعا وهو لا يدرك أنها جميلة، وهو لا يدري أني أحبها وأنها تريد أن تعيش، لا تتألم وتموت … هو ليس له من يطعمه إذا جاع. الإنسان محظوظ، تقدم وارتقى وإدرك . هو يعرف الخطا والصواب، الحيوانات البرية تجوع وتمرض وتهرم وتموت، لا احد يدري بها وإذا درى لا تعنيه..
التقدم الاجتماعي، للفرد أو للجماعات على اختلافاتها، هو تقدم الوعي الإنساني فيهم، وهو هذا الوعي، أو توسعه وشموله وراء جمعيات الرفق بالحيوان وحماية البيئة ومؤسسات رعاية الايتام واللقطاء والمنقطعين .. من هذا الحب حب النفس الإنسانية وغناها الروحي وتجاوز حدود الذات بالخير إلى ما حولها وما هو بحاجة إلى عونها. لا يُعنى بهذا كله، كاره أو أناني مغلق مسموم، لكنه إذا ارتقى وأزداد نقاء ومحبة، فاض لطفاً ورضا، أما قبل هذا، فهو كما يقال، ليس جاهزاً بعد لسماع الموسيقى العابرة في الزمان..سلاماً لمن اغتسلوا بعذوبة الحياة وحظيت نفوسهم بدفق المحبة فتمتعوا بعافية التفتح الربيعي وغادرهم وغادر أفكارهم التوحش والشر والكذب واتوا الله والإنسان بقلب سليم ..