فِي معرضه الجديد “وهم” الذي أقيم في جمعية الفنانين بمدينة نوتنغهام البريطانية يلغي الفنان العراقي علاء بشير المسافة التي تفصل بين الحقيقة وظلالها التي غالبا ما تتخذ طابعا وهميا. تبدو المشاهد التي يصوّرها الفنان كما لو أنها اقتطعت من حقيقة كونية مطلقة تصغر أمامها الحقائق النسبية التي يعبر عنها الواقع. ولأن علاء بتركيبته الذهنية فنان يميل إلى الأفكار الجدلية ولا تغريه الجماليات المريحة، فقد اختار أن يواجهنا صراحة بالفكرة التي يحرص الإنسان على الهروب منها، وهي الفكرة التي تتعلق بمعنى الوجود لا من جهة عبثيته الصادمة، بل من جهة إمكانية تخليه اليسير عن التفسير الواقعي لاستمراره، وهو ما يفتح الباب على عوالم خفية، ينطوي عليها لغز الإنسان. وبحكم مهنته طبيبا جراحا فقد تعرّف بشير على الإنسان، كائنا يقف عند حدود الألم، وهي معرفة تزيل عن الإنسان قشرته الخارجية بكل ما تنطوي عليه تلك القشرة من شروط التماهي مع الواقع والارتباط بحاجاته، وهو ما يعني الوصول إلى مفهوم الإنسان لذاته، كائنا تتحكم بمصيره رؤى خارجة عن إرادته. ولأن وعي الألم لا يعني بالضرورة القدرة على وصفه، فقد أعفى بشير نفسه من القيام بتلك المهمة التي تتطلب النظر إلى العالم بطريقة مفرطة في حياديتها. رسوم علاء بشير تقع داخل الألم الذي تتعذر عملية وصفه، وهي رسوم إن غلب عليها طابع الحكاية الصادمة والمختزلة، فإن خلاصاتها الجمالية تقع في رمزيتها التعبيرية، حيث يحرص الرسام على أن يزيد من شحنة الوعي لدى متلقي أعماله فتقف الفكرة بموازاة الجمال، حتى يُخيل للمرء أن جمالا يتألم هو الصيغة التي تعيد الإنسان إلى ذاته المتخيلة. ليس هناك من دور للصدفة في تلك الرسوم، فهي مُحكمة بطريقة لا تسمح بحدوث مفاجآت غير متوقعة، وهو ما ميز منذ زمن طويل تجربة علاء بشير عن تجارب مجايليه من الرسامين العراقيين الذين كانوا يسمحون للصدفة أن تلعب دورا في صناعة رسومهم، وكما يقول فإنه “يرى الصورة قبل أن يرسمها” وليس ليده أن تقوم سوى بدور المنفذ. وذلك الموقف هو انعكاس لموقفه من الجانب الغرائزي في الإنسان، وهو الجانب الذي يعتبره علاء بشير سببا لتحويل الحياة إلى مجموعة متلاحقة من الأوهام التي لا تفضي إلى معنى بعينه. وكعادته فإن علاء بشير يضع الإنسان في مكانه الطبيعي وسط الخليقة لا سيدا عليها، لذلك فإنه يجد متعة كبيرة في تأمل مشاهد مستلهمة من حياة تقع خارج ما هو متاح للعين البشرية. إنها مشاهد متخيلة، تنطوي على دلالات رمزية لا يمكن أن تخطئها العين، بالرغم من أن الرسام قد اجتهد في تركيب تلك المشاهد بطريقة جمالية أخاذة وساحرة، وهو في ذلك إنما يخلص إلى معادلته في إقامة توازن مريح بين ما هو بصري وما هو فكري. وعلاء بشير (1939) هو فنان وطبيب عراقي، بدأ الرسم نهاية خمسينات القرن الماضي مع جماعة الانطباعيين التي تزعمها الفنان الرائد حافظ الدروبي، غير أنه حرص دائما على أن يحيط نفسه بمسافة تفصله عن شروط ووصفات الحداثة الفنية في العراق، كانت له حداثته الخاصة التي تحفظ للفكر منزلة متقدّمة في العملية الفنية، بحيث يمكن اعتباره مفكرا بثياب رسام.