الآيديولوجيا والواقع !؟ « الحكمة معرفة الناس » « الفضيلة حب الناس » كونفوشيوس في غمرة الصراع القومي- الشيوعي في العراق بعد ثورة 14 يوليو (تموز) العام 1958 وما أعقبها، سادت النزعات الإقصائية والإلغائية وهيمن الخطاب العاطفي والشحن العدائي والرغبة في التسيّد وفرض الاستتباع على الآخر، في حين غاب خطاب العقل والعقلانية والاعتراف بالتنوّع والتعددية. وهكذا تصدّعت الوحدة الوطنية المجتمعية بفعل الخلافات السياسية، بعد أن كانت متينة وقوية في مواجهة النظام الملكي، وانقسم المجتمع بين موالاة ومعارضة، الأولى تمجّد الحاكم الجديد وتتغنّى بالزعيم الأوحد والثانية تندّد به، بل وتعتبره أكثر سوءًا من العهد الذي سبقه. وبسرعة خارقة وبغفلة من الزمن تحوّل حلفاء الأمس إلى خصوم وأعداء متناحرين في الأزقة والحارات والساحات والمدارس والكليات والدوائر الحكومية والثكنات العسكرية، وأحياناً في العائلة الواحدة والبيت الواحد، وكان كل طرف يتشبّث بمواقفه ويزداد تمترساً بمواقعه ويدّعي أفضلياته، بل وامتلاكه للحقيقة لاغياً كل إيجابية أو دور للآخر، محاولاً عزله واستعداء الشارع عليه .
ففي حين كان القوميون يردّدون شعارات مدوّية مثل: “فلسطين عربية، فلتسقط الشيوعية” بعد أن كان الشعار فلتسقط الصهيونية و”وحدة وحدة فورية… لا شرقية ولا غربية…”،وترتفع الشعارات المندّدة بالشعوبية، كان الشيوعيون، ولاسيّما في المهرجانات الكبيرة التي أقاموها يرفعون شعار: اتحاد فيدرالي… صداقة سوفييتية… ومع الصين الشعبية، و”عاش السلام العالمي هو وحماماته… يسقط الاستعمار هو وعصاباته” وأتذكّر إحدى اللافتات التي ظلّت عالقة بذهني طيلة أكثر من ستة عقود من الزمن، وهي التي كُتب عليها ” تايوان جزء لا يتجزأ من البرّ الصيني “، وكنت أشعر بالحيرة فما علاقتنا بمثل تلك الشعارات الغريبة، خصوصاً لمن كان بعمري وفي بدايات وعيه الأول؟
وأستطيع القول اليوم بقراءة ارتجاعية للماضي، أن تلك الشعارات والتناحرات كانت تعبّر عن قلّة وعي القيادات والنخب السياسية، التي بدت ناضجة حين قررت التعاون في إطار “جبهة الاتحاد الوطني” التي هيّأت للثورة ولكنها حسبما يبدو فوجئت بنتائجها، لاسيّما في اندفاع حشود شعبية للمشاركة في عالم السياسة، بل وفي طرح الشعارات أحياناً وبلورة التوجهات، ساحبة القيادات خلفها، بدلاً من أن تسير هذه الأخيرة أمامها.
وإذا كانت الحركة الوطنية بأطرافها المختلفة تُحسن المعارضة، لكنها لم تُحسن إدارة التنوّع والصراع في الوضع الجديد، خصوصاً بالزخم الشعبي الذي انفتح على الأحزاب والحياة العامة، فوقعت كل الأطراف صرعى قصر نظرها وذاتيتها، وكان ذلك على حساب تطوّر البلاد نحو التنمية والاستقرار والحياة المدنية الدستورية، ولعلّ مثل تلك الاندفاعات والشطحات والانزلاقات كانت تتعاظم لدى جميع القوى، الأمر الذي يعكس ضعف الشعور بالمسؤولية الوطنية من جهة، ومن جهة أخرى الاغتراب عن الواقع الحقيقي والابتعاد عن الهموم اليومية للناس، خصوصاً وأن الصراع القائم في إحدى تجلّياته كان انعكاساً للصراع الأيديولوجي الدولي والإقليمي، لاسيّما الواقع تحت تأثيرات موسكو من جهة والقاهرة من جهة أخرى، فضلاً عن التداخلات المباشرة وغير المباشرة للقوى الامبريالية التي حاولت تسخين الصراع بصبّ الزيت على النار بأساليب الدعاية السوداء وعمليات التضليل والقوة الناعمة والوسائل الثقافية والحرب النفسية.
واللافت للمراقب والباحث أن ليس ثمّة ما يتصدّر تلك الشعارات والاحترابات، ولاسيّما الشرارات الأولى التي فجّرت الصراع من مشكلات عراقية مباشرة تتعلّق بأهداف الثورة ومبادئ جبهة الاتحاد الوطني التي تشكّلت في العام 1957 واختيار طريق التنمية والانتقال بالبلاد إلى إجراء انتخابات في ظل دستور دائم بتحديد فترة الانتقال، وكان دور العسكر في الهيمنة على مقاليد الأمور يتعزّز باحتراب الأحزاب الوطنية، التي فقدت بوصلتها، وإنْ ظلّ البعض متمسّكاً، لكن مثل ذلك كان على نحو محدود وضاع في زحمة الصخب السياسي والديماغوجيا الدعائية ومحاولات تأثيم الآخر وتحريمه وتجريمه وإدعاء امتلاك الحقيقة والأفضليات، ناهيك عن مسعى احتكار العمل السياسي والنقابي والسيطرة على الشارع بجميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة.
في بكين: استذكارات ومراجعات نقدية
لا أدري كيف خطرت ببالي تلك الاستذكارات والاستعادات المصحوبة بمراجعات أولية نقدية وأنا في الصين ضمن وفد عربي رفيع المستوى لشخصيات فكرية وثقافية وممارسين سياسيين سابقين في إطار دعوة من معهد العلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية للمشاركة في الحوار العربي – الصيني ،علماً بأن المعهد يقع على عاتقه تقديم أفكار ورؤى وتصوّرات بخصوص السياسة الخارجية الصينية لأعلى مراتب الدولة والحزب الشيوعي الصيني، وضمّ الوفد شخصيات من اليمن (رئيس الوزراء الأسبق عبد الكريم الإيرياني) ومن الأردن (الوزيران السابقان سمير الحباشنة وجواد العناني ) ومن المغرب (السفير علي أومليل) ومن مصر سفيرها السابق في الصين (محمد نعمان جلال) ومن الكويت أول رئيس لمجلس التعاون الخليجي (عبدالله بشارة) ومن الإمارات العربية المتحدة رئيس المعهد الدبلوماسي (السفير يوسف الحسن) ومن فلسطين المفكر والباحث الأكاديمي (محمد عبد العزيز ربيع) ومن العراق (كاتب السطور).
ومع أنني قدّمت بحثاً بشأن ” الفلسفة التاوية- الصينية وصنوها الفلسفة الصوفية العربية – الإسلامية”، أثار اهتماماً صينياً كبيراً وتم نشره باللغة الصينية، كما تم نشره في أكثر من مجال في العالم العربي والعراق، إلّا أن معظم جوانب الحوار ركّزت على ما هو راهني وسياسي أكثر مما هو فلسفي وتاريخي، ولم يأخذ الجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتاريخي والعلمي والتكنولوجي الأهمية التي يستحقها، حيث انصبّت معظم المناقشات من جانب الوفد العربي مع الجانب الصيني على طبيعة العلاقات التي بدأت بعض خيوطها تنسجُ مع نجاح الثورة الصينية في العام 1949 وهي الثورة التي عرفت بـ”مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة”، فضلاً عن تأثّر اليسار العربي أو بعض أجنحته بأطروحاتها، ولاسيّما تقسيم المجتمع إلى أربع طبقات وهي الفكرة التي نظّر لها ماوتسي تونغ، والتي وجد فيها بعض الشيوعيين واليساريين أقرب إلى مجتمعاتنا من التقسيم الطبقي الكلاسيكي: برجوازية وبروليتاريا أي عمال ومالكين أو مستغلين وأجراء.
لقد حاول الشيوعيون بشكل خاص واليساريون بشكل عام في تلك الفترة على أقل تقدير “أسطرة” أو “عبقرة” الزعيم الصيني ماوتسي تونغ ونظرنا إليه بخيلاء وفخر، فهو فيلسوف وشاعر وقائد وثوري ورائد ومفكر ومعلّم ومُلهم، تتحرّك الملايين لمجرد أن يرفع يده في ظل نظام طاعة عمياء كنّا معجبين به أيّما إعجاب، وتلك واحدة من مساوئ الأفكار الشمولية والأنظمة التي تتأسس عليها والتي اقترنت باسم ” الاشتراكية المطبقة” والتي كانت قد غرقت فيها التيارات القومية والإسلامية لاحقاً، ولعلّ كل فكر منغلق سيقود إلى الدكتاتورية شئنا أم أبينا، وتعكس جميع التجارب الكونية بطبعتها الماركسية أو القومية أو الإسلامية تلك الحقيقة بوضوح شديد.
وعلى الرغم من قراءتي النقدية لتلك المرحلة وما تركته من عذابات كبيرة على الشعب الصيني ، لكنني وقفت أمام ضريح ماوتسي تونغ في المكان المهيب الذي يقبع به في ساحة تيان أنميمن أو ” ميدان السماء” الذي يقع في وسط بكين والذي تبلغ مساحته 440 الف متر مربع، وقد شهد بين 15 أبريل (نيسان) و4 يونيو (حزيران) العام 1989 تظاهرات واحتجاجات مطالبة بالإصلاح والديمقراطية سقط فيها بضعة آلاف من الضحايا، أقول نعم وقفت بكل دهشة وذهول أمام حشود الذين كانوا يتوافدون لزيارة ضريحه بغض النظر عن ما ارتبط باسمه من انتهاكات ومجازر وتدمير الآثار والمواقع الثقافية والدينية ، خصوصاً في فترة الثورة الثقافية (1965-1976) .
وقد اشتهرت الآيديولوجية الاشتراكية بطبعتها الصينية التي حاولت تطبيقها في السياسة والاقتصاد والاستراتيجيات العسكرية التي اتبعها ما بات يُعرف بالماوية أو “تصيين الماركسية”، مثلما عُرفت الطبعة السوفيتيية بـ “لنينة الماركسية”، نسبة إلى لينين، والتي أطلق عليها ” اللينينية” وعمّم السوفييت لاحقاً هذا المصطلح لتصبح المادية الجدلية “بالماركسية اللينينية” حيث أضيف اسم لينين إلى اسم ماركس الذي مثل الحلقة الذهبية الأولى للمادية الجدلية، والطبعتان تم استنساخهما كبراديغم “نموذج” من جانب أحزاب وقوى شيوعية ومن بعض تجارب حركة التحرر الوطني.
وكانت معظم وجهات النظر العربية في الحوار العربي- الصيني تحاول الضغط على الجانب الصيني، الذي ضمّ خبراء على درجة عالية من الخبرة والمعرفة ليس في شؤون العلاقات الدولية فحسب، بل في ظروف كل بلد عربي وظروف المنطقة بشكل عام، وبالصراع العربي- الإسرائيلي بشكل خاص وقسم غير قليل منهم تخرّج من جامعات عربية واكتشفت أن مدير وكالة شينخوا السابق كان قد تخرّج من كلية الآداب قسم اللغة العربية (جامعة بغداد)، وحدّثني كيف أنه كان يستذوق “العرق العراقي” (المسيّح والعصرية) ومازات الباقلاء واللبلبي والجاجيك، وكانت غالبية المشاركين من الجانب الصيني يعرفون اللغة العربية.
هل الصين دولة عظمى؟
وأفاض أعضاء الوفد العربي في إطروحات حول جدوى وفاعلية التعاون العربي- الصيني ومزاياه وفوائده، وذهب بعضنا أكثر من ذلك إلى القول أن على الصين أن تملأ الفراغ الذي تركه الاتحاد السوفييتي، بل عليها دعم الشعب العربي الفلسطيني باعتبار قضيته تمثّل قضية العرب المركزية، وأن المستقبل هو للعلاقة مع العرب وغير ذلك من الأطروحات، حول الجدوى الاقتصادية والفوائد التجارية ، إضافة إلى التذكير بالعلاقات التاريخية.
وكان رأي الصينيين وكأنهم يتحدثون بلسان واحد هو: أننا “دولة نامية” ولسنا “دولة عظمى”، وأن لدينا مشاكلنا، فهناك أكثر من 150 مليون إنسان دون خط الفقر، ثم إننا لا نريد أن نلعب دوراً آيديولوجياً، فنحن غير قادرين عليه، بل لا نفضله ولا نرغب فيه، ولا نريد السير في سباق التسلّح المدمّر، ونريد التجارة مع الجميع، وبالقدر الذي نؤيد حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة دولته الوطنية، فإننا مع حلّ الدولتين ومع قرارات الأمم المتحدة، ونتعامل مع الطرفين، وإنْ كان لنا علاقة متميزة وخصوصية مع م. ت.ف. والسلطة الوطنية الفلسطينية، لكننا نحرص على العلاقة مع “إسرائيل” أيضاً، وباعتقادهم أن هذه العلاقة قد تساعد على التوصل إلى حلّ سلمي مُرضي للطرفين.
ولم يكن الجواب مقنعاً لغالبية الشخصيات العربية حتى أن بعضهم تناوب على الكلام أكثر من مرّة لشرح وجهات النظر العربية، ولكن الصينيين كانوا يردّونه مرّة أخرى بذات المنهجية، مؤكدين أن من الخطأ مقارنتهم بالولايات المتحدة أو بالاتحاد الأوروبي أو حتى بالاتحاد السوفييتي السابق، وإذا كانوا قد حققوا آنذاك قفزة اقتصادية بُعيد رحيل الزعيم الصيني ماوتسي تونغ وانتهاء الثورة الثقافية فإنهم لا يرغبون تبديدها على سباق التسلح والصراع الآيديولوجي، وهم ما زالوا لم يدخلوا ” نادي الكبار” ، بل ويضعون أنفسهم في “منتدى دول عدم الانحياز”. وقد يكون الأمر تواضعاً من جهة ومن جهة أخرى تخلصاً من التزامات الدول الكبرى إزاء الغير.
قراءات وانطباعات
كنت قد قرأت في أواخر سنوات الخمسينات والستينات بعض ما كتبه ماوتسي تونغ وليوشاوشي بشأن حرب التحرير والثورة الصينية وبعض الإطروحات التي تتعلّق بالحزب، (وهي عبارة عن كراريس وكُتيبات نشرت في العام 1959 وما بعده) وما زاد اهتمامي بالصين في فترة لاحقة هو صداقتي لثلاث شخصيات ذات مكانة ثقافية وفنية وإن كان في فترات متفاوتة، فقد سمعت منها آراءً ووجهات نظر وملاحظات أثارت فضولي أكثر بكثير مما كنتُ أعرفه ، أولها – الشاعر كاظم السماوي ، وثانيها- الباحث والمفكر التراثي هادي العلوي،لاسيّما كتابيه ” المستطرف الصيني” وقبله “كتاب التاو” وثالثها- الفنان رافع الناصري الذي درس الغرافيك في الأكاديمية المركزية في بكين وأقام معارضة في هونغ كونغ في العام 1963 وأصدر كتاباً بعنوان ” رحلتي إلى الصين ” وقد أهداني إياه قبل وفاته العام 2013 ، وجميعهم عاشوا في الصين وتعمّقوا في تجربتها الفكرية والفلسفية والسياسية والفنية، وعاصر هؤلاء فترات مختلفة من حياة الصين في ظل حكم ماو تسي تونغ.
وكنت قد أدرت حوارات مع القيادي الشيوعي عامر عبدالله عن زيارته الصين ولقائه مع ماوتسي تونغ العام 1975 وتأثّره بالتجربة الصينية المعاصرة وبفلسفتها القديمة، وسألته عمّا قيل عن أننا بين عامي 1958 و 1960 لم نحسم موقفنا من الخلاف الصيني – السوفييتي، وكنت قد قرأت كتاباً للدكتور فيصل السامر (وزير الإرشاد الأسبق في العراق) والموسوم “الأصول التاريخية للحضارة العربية- الإسلامية في الشرق الأقصى” مثلما اطلعت في وقت لاحق على بعض ما كتبه الشيخ العلامة جلال الدين الحنفي والشيخ محمد حسن الصوري (صاحب جريدة الحضارة) عن الصين، وكان قد درّسا اللغة العربية في بكين في ستينات القرن الماضي،
كما تابعت ما كتبه عبد المعين الملوّح الذي قام بترجمة كتاب “تاريخ الشعر الصيني المعاصر” وفؤاد محمد شبل وكتابه ” حكمة الصين”، وهو دراسة تحليلية لمعالم الفكر الصيني منذ أقدم العصور ولعلّ الكتابات الأولى ، التي اطلعت عليها رغم ما فيها من عنصر الإبهار إلّا أنها لا تسرّ كثيراً لشاب مثلي يتطلّع إلى الحداثة وتتكوّن لديه إرهاصات تساؤلية أكثر فأكثر خلال احتدام الخلاف الصيني- السوفييتي .
ظلّ السماوي والعلوي يقيّمان إيجابياً ما حققه ماوتسي تونغ ويعتبران فترته “ذهبية” لما حصل بعده في إطار نظرة كلاسيكية للماركسية ذاتها، لاسيّما ما يتعلّق بالرؤية الخاصة بالتطبيقات المبالغة في التشدّد والقسوة لعملية التغيير، التي اتبعتها ، مثلما ينظران بعدم ارتياح لسياسات الانفتاح الجديدة، وأحياناً يضعان علامات استفهام حولها.
البراديغم الماوي والستاليني
لعلّ مثل تلك الممارسات التي سادت في الصين والبراديغم Paradigm (النموذج الفكري) الذي اعتمده أثار تساؤلات كبيرة وعميقة عن مدى علاقته بالمادية الجدلية وطورها الذهبي الأول والمقصود أفكار ماركس ورفيقه إنجلز، وهل هناك ” ماركسية” أخرى ، إذا كانت المادية الجدلية قد ظلّت في المتحف وكان أتباع كل ماركسية يتندّرون على الماركسية الأخرى، فهذه الماركسية الصينية مثل البضاعة الصينية أيام زمان، أي المقلّدة أو غير الأصلية ، حتى أصبح الحديث عنها أقرب إلى ” ماركسية من صنع الصين” Made in China.
ومقابل ذلك هناك وجه آخر لممارسات مماثلة كانت تمثّل النموذج الأول على المستوى العالمي، وهي تلك التي جرت في الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية الأخرى من “تجارب الأصل” التي انتقلت عدواها إلى ” تجارب الفرع” في البلدان النامية والعديد من تجارب العالم الثالث وحركات التحرر الوطني بما فيها التجارب العربية، حيث ساد النموذج الشمولي ” التوتاليتاري” الستاليني ، دون النظر في عيوبه التي شوّهت المجتمعات والشعوب وأحدثت تصدّعات نفسية في شخصية الفرد لدرجة مريعة.
وإذا طالت التندرات التجربة الصينية في ظل الخلاف الصيني – السوفييتي ، فثمة تندّرات صينية للبراديغم السوفييتي، حيث كانت تسخر من ” اشتراكية الكولاج” وهي أكلة شعبية مجرية مشهورة جاءت في خطاب نيكيتا خروشوف الزعيم السوفييتي الذي خاطب المجريين: أنتم بفضل الاشتراكية تأكلون الكولاج، وذلك بعد مجازر قمع حركة الاحتجاج المجرية الهنغارية ، بالدبابات السوفييتية العام 1956.
والبراديغم كمصطلح استخدم لأول مرة من المفكر الأمريكي توماس هان (1922-1996) المختص بالتاريخ وفلسفة العلوم، وهو يعني مجموعة قوانين وتقنيات وأدوات مرتبطة بنظرية معينة ومسترشدة بها، بهدف تطبيقها بجميع الوسائل على الواقع الاجتماعي، وهو ما حاولت النماذج الاشتراكية اعتماده وتطبيقه لإحداث التغيير المنشود دون مراعاة للوسائل المستخدمة.
هوسٌ ثوري وعمى ألوان
كان الهوس الثوري في أواسط الستينات على أشدّه في العراق والعالم العربي بعد هزائم ومرارات وتصدعات فكرية وسياسية، لاسيّما بعد صدمة 5 يونيو (حزيران) العام 1967، وكقاعدة عامة، وإن كان هناك استثناءات، ففي كل انكسار أو تراجع أو عزلة وابتعاد واحتجاز تتصاعد الموجة المتطرّفة ويزداد التعصّب ووليده التطرّف، وهكذا بدأنا نعيد قراءة كتابات ماوتسي تونغ، لاسيّما بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 الدموي والخسائر والانكسارات التي مُنينا بها، وكان المركز الثقافي الصيني في بغداد يقوم بتوزيع الكراريس والأدبيات الملوّنة والمطبوعة بأناقة تثير الإعجاب، إضافة إلى ” الكتاب الأحمر”.
لم أتأثّر إلّا قليلاً بتلك الأطروحات، لأن ميلي بشكل عام كان يحمل بذرة لا عنفية ، ولذلك فإن شعارات مثل ” الإمبريالية نمر من ورق” و” كل شيء ينبت من فوهة البندقية” لم تكن مقنعة لي، وأنا أقرأ وأتابع ما كان يجري في العالم، حتى وإن كانت بوادر هزيمة الولايات المتحدة في فييتنام وانتصار حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كنغ، ونجاحات بعض حركات التحرر الوطني وإحراز العديد من شعوب آسيا وأفريقيا استقلالها، لكن بالمقابل هناك موجة من الارتدادات شهدتها الكتلة الاشتراكية أخذت تتكشّف على الرغم من أجواء التكتم والستار الحديدي المفروض عليها لقطعها عن العالم الخارجي وإن كنّا لا نراها أحياناً أو نعتبرها مجرد دعاية سوداء ومغرضة من جانب القوى الإمبريالية، فقد كانت الإصابات بعمى الألوان بالغة وشديدة.
ولعلّ أهم الأحداث: انتفاضة برلين (1953) – المانيا الديمقراطية، حيث أضرب عمّال البناء احتجاجاً على زيادة ساعات العمل فتحوّلت انتفاضتهم إلى احتجاج سياسي ضد الستالينية وصنيعتها حكومتهم، بسبب الأوضاع المعاشية التي عبّروا عنها بأنها لا تطاق وقد انضم إليهم طلاب وشباب ومزارعون وقد تواصلت حركة الاحتجاج في عموم “ألمانيا الديمقراطية” على نحو متفاوت، الأمر الذي جوبه بالقمع وبتقديم عدد من المشاركين إلى محاكمات دريسدن الشهيرة، ولعلّها كانت أولى حركات الاحتجاج الواسعة ضد الهيمنة السوفييتية، وقد اضطر السوفييت بعد ذلك وبسبب عمليات الهروب الجماعي من “نعيم” الاشتراكية إلى “جحيم” الرأسمالية إلى بناء جدار برلين 1961 والذي تم هدمه 1989، وكان إيذاناً بانهيار الكتلة الاشتراكية.
كما كانت احتجاجات بوزنان العمالية – بولونيا (1956)، هي الأخرى تحدياً جديداً لنظام يزعم أنه يدافع عن مصالح العمال، حيث تظاهر العمال مطالبين بظروف عمل أفضل وتم قمعهم بشكل وحشي بالدبابات، وكان عدد القتلى بالعشرات، وهو ما استمعت إليه في العام 2014 بشكل مفصّل خلال دعوتي لإلقاء محاضرة في جامعة بوزنان .
أما انتفاضة المجر – هنغاريا فقد قادت إلى تدخل عسكري سوفييتي صارخ (1956) وقد دامت من 23 تشرين الأول (أكتوبر ) ولغاية 4 تشرين الثاني (نوفمبر) احتجاجاً على سوء الأوضاع الاقتصادية، فتم قمعها بوحشية، وسقط عشرات الآلاف من المحتجّين خلال المواجهات الدامية وفي الإعدامات التي طالت لاحقاً عدداً منهم بمن فيهم بعض قادة الحزب الهنغاري (الشيوعي) وفي مقدمتهم الأمين العام أمري ناج الذي لجأ إلى السفارة اليوغسلافية ، لكنه سلّم نفسه لاحقاً وأعدم بعد سنتين بتهمة ” الخيانة العظمى”.
نجدة أممية ولكن بالمقلوب
وجاء ربيع براغ باجتياح دبابات حلف وارشو البلاد (1968) للقضاء على حركة وليدة مطالبة بالإصلاح وبإضفاء وجه إنساني على الاشتراكية وإعطائها بُعداً ديمقراطياً، وهو ما كان يدعو له الكسندر دوبتشيك الأمين العام للحزب الشيوعي والذي أقصي من منصبه وعُزل من الحياة العامة عقوبة له ، لكنه عاد في العام 1989 ليصبح لاحقاً رئيساً للبرلمان بعد الإطاحة بالنظام الشيوعي، حيث أصبح فاتسلاف هافل رئيساً للبلاد.
وكنت قد توقفت عند ربيع براغ في أكثر من مناسبة ، حين قدّر لي زيارة تشيكوسلوفاكيا العام 1969 في الذهاب والإياب إلى بولونيا (كراكوف) لحضور اجتماع تحضيري لمناسبة ميلاد لينين، وقد شاهدت آثار ذلك وتلمّست مشاعر الناس في البلدين، وهو أدهشني كثيراً وأثار تساؤلات وحيرة في نفسي.
وأتذكّر أن الصديق لؤي أبو التمن كان قد أخبرني بعد زيارته لسفارة تشيكوسلوفاكيا إلى بغداد على رأس وفد لتهنئة المسؤولين على ” النجدة الأممية” والمقصود بذلك “التدخل السوفييتي”(21 آب/أغسطس/1968) لقمع ربيع براغ، إلّا أنه فوجئ بردّ عنيف من الدبلوماسيين التشيكوسلوفاكيين في بغداد، بأن هذا ليس سوى “احتلال” أو “تدخل” بالضد من إرادة الشعب التشيكوسلوفاكي، وبقينا لفترة نعلّق على ذلك ونتبادل أطراف الحديث بيننا مشكّكين في بعض الروايات الرسمية التي تصلنا من جانب الدعاية الاشتراكية وصداها دعايتنا وبعض مصادر معلوماتنا، وبقينا نثير الأسئلة التي يسميها البعض الشغب المستمر والاعتراض الدائم.
وكم أحرجنا حين أعلن الرئيس أحمد حسن البكر تأييده لخطوة “التدخل الأممي” وذلك بقوله ” المهم أن تبقى تشيكوسلوفاكيا اشتراكية” وهو تبرير استساغه من يريد الرد على بعض تململاتنا ، ناهيك عن الاحتجاجات التي ارتفعت لمثقفين كبار من فرنسا وإيطاليا وغيرها للتنديد بالتدخل السوفييتي لقمع ربيع براغ.
أما نشاط حركة تضامن (اتحاد نقابة العمال البولونية) لاحقاً في بولونيا في الثمانينات بقيادة ليخ فاليستيا فقد كانت الأطول عمراً والأكثر تأثيراً، حيث شهدت بولونيا اضرابات متكرّرة إلى أن تم تغيير النظام في العام 1989، وذلك عن طريق لا عنفي، ابتدأ في مدينة غدانسك ولم تنفع معها الإجراءات القاسية التي اتخذتها الحكومة، حتى تم فرض إجراء انتخابات (شبه حرّة) وتشكيل حكومة ائتلافية بقيادة تضامن وهكذا انتصر ” فقه التواصل” على نزعات الانتقام والثأر، وهو ما حصل في هنغاريا أيضاً، في حين اتجهت ألمانيا الديمقراطية إلى ” فقه القطيعة” باتحادها لاحقاً بألمانيا الاتحادية.
الأوروشيوعية
كان موقف الحركة الشيوعية في أوروبا الغربية إبان ربيع براغ قد اختلف عن موقفها من انتفاضة المجر، ففي الأخيرة لم تستنكر ما حصل من اجتياح سوفييتي، أما في العام 1968 فقد استثيرت على نحو شديد، وأعلن الكثير من قياداتها وملاكاتها رفضهم الشديد للتدخل السوفييتي وإدانتهم له، وقد كان ذلك بوادر انشقاق جديد في الحركة الشيوعية العالمية تحت عنوان فكرة الأوروشيوعية التي بدأت تلقى صدىً أكبر في أوساط الأحزاب الشيوعية الثلاث الإيطالي والفرنسي والإسباني تمايزاً لنفسها عن الموقف السوفييتي وما يسمّى بالمركز الأممي أو التبعية الأممية، بل إن انقسامات وانسحابات قد حصلت داخل هذه الأحزاب بسبب ” التدخل السوفييتي” لسحق حركة الاحتجاج في تشيكوسلوفاكيا.
وللأسف لم يتم التوقف عن الأوروشيوعية ودراستها ونقدها من جانبنا، بل اتخذنا الموقف ذاته الذي اتخذ الحزب الشيوعي السوفييتي فشككنا بها واتهمناها بأبشع التهم وهي الطريقة السائدة في التعاطي مع الخلافات الفكرية في الأحزاب الشمولية، وبالقراءة الاستعادية لفكرة الأوروشيوعية فإنها تقوم على ركنين أساسيين:
الركن الأول – الالتزام بالديمقراطية البرلمانية وسيلة للوصول إلى السلطة وطريقاً سالكاً للنشاط والمشاركة السياسية، ولهذا لا بدّ من احترام هذه المؤسسة والحرص على تطويرها لتأتي بنتائج أفضل وتعبر عن مصالح الفئات الفقيرة والكادحة.
والركن الثاني- الاهتمام بالمصالح الأوروبية، وما يقرّب بينها ويساعد في تلبية طموحات شعوبها في السياسة الداخلية والخارجية وفي ما يتبعونه من برامج وستراتيجيات وممارسات، أي التخلي عن الانشغال بالمصالح السوفيتيية وهكذا وضع القادة الشيوعيون الثلاثة جورج مارشيه وبرينغوير (إيطاليا) وسانتياغو كاريّو (إسبانيا) فكرة الأوروشيوعية أواخر السبعينات، لكن انهيار الكتلة الاشتراكية وانحلالها فيما بعد، ساهم في تخفيض رصيد هذه الفكرة من جهة وانصراف جمهور الناخبين عن المرشحين الشيوعيين في هذه البلدان من جهة أخرى.
إذا كانت الارهاصات الأولية قد أثارت تساؤلات لديّ بخصوص حقيقة أو عدم حقيقة ما يحصل، وفيما إذا كانت تلك الأحداث من صنع الخارج أم أنها شأن داخلي دون نسيان تأثيرات الصراع الآيديولوجي، إلا أن بعد معرفتي ودراستي وزياراتي لجميع البلدان الاشتراكية، كنت أتلمّس الأخطاء والارتكابات وحتى الجرائم بحق العمال والشغيلة قبل غيرهم دون إهمال بعض المنجزات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي حققتها هذه الأنظمة، لاسيّما في ميادين التعليم والصحة والعمل والضمان الاجتماعي وغيرها، وإن اختلفت زاوية النظر لدّي لاحقاً، بشأن الحرّية القيمة الأساسية العليا للإنسان، ولا تختلف التجربة الصينية عن التجارب الاشتراكية الأخرى في هذا الميدان: حزب حاكم وآيديولوجيا واحدة وجهاز مخابرات متحكّم وأعلام موحد وغياب أي مظهر من مظاهر النقد أو حرّية التعبير.
تململات ونقد
ومع تلك التململات الجنينية الأولى، بدأت الانتقال بالتدرّج وليس دون معاناة وألم من الإيمانية التبشيرية الدعائية إلى التساؤلية العقلية المنطقية، ومن هذه الأخيرة إلى النقدية الحقوقية الإنسانية، في إطار جدل مع النفس ومع الآخر، مع نقد ذاتي ومحاولة للفهم أولاً ثم للإقناع والتغيير ثانياً ، وهكذا استمرّ المونولوج الداخلي بنبرة أعلى لينتقل تدرجياً من الجوّانية إلى البرانية ومن الأنا إلى الآخر، ومن الآخر إلى النحن، في منهج قرائي جديد للمادية الجدلية ومحورها الماركسية العقلانية غير الشعاراتية وربط ذلك بالواقع العربي والعراقي ومشكلاته وهمومه ومعاناته وتطلعاته، أي الانطلاق من الواقع وليس من النظرية، وتكييفها في ضوء البراكسيس وليس محاولة تكييف الواقع للافتراضات النظرية غير المختَبِرة أو المُمتحِنَة، لأنها ظلّت مجرد وعود وردية تجريدية لغايات نبيلة، لكنها كانت أقرب إلى الأحلام وأحياناً الأوهام قُدّم بعضها بصيغة مفصولة عن الواقع وغريبة عنه، بل ومسقطة عليه؛
حاول البعض الآخر ضمن قراءاته المبتسرة والدعووية وفهمه المبسّط والمحدود تقديم الماركسية بنكهة قروية أو ريفية أو بدوية خارج منطلقاتها الأساسية، ناهيك عن التطبيقات المشوّهة التي عرفتها الأنظمة الاشتراكية التي أفسدت محتواها المدني والإنساني والجمالي المتحضر والراقي.
ولعلّ هناك دائماً علاقة عضوية بين الوسيلة والغاية، فلا غاية شريفة وعادلة يمكن الوصول إليها بوسائل غير شريفة أو غير عادلة، فالوسيلة جزء من الغاية مثل البذرة من الشجرة على حد تعبير المهاتما غاندي، وإذا كانت الوسيلة منظورة وملموسة، فالغاية بعيدة المدى، ولا يمكن إدراكها إلّا بوسائل إنسانية أولاً وقبل كل شيء.
وإذا كانت محاولة يوسف سلمان يوسف (فهد) أمين عام الحزب الشيوعي العراقي الذي أعدم العام 1949 مهمة، لجهة قراءة الواقع وتقديم بعض الاجتهادات الأولية انطلاقاً منه على الرغم من هيمنة العقلية الستالينية الإيمانية، إلّا أنه لم تجرِ محاولات لاحقة ومعمّقة أكثر شمولية وانفتاحاً لتراكم عليها، بل على العكس ساد نوع من الركود والكسل اللذان أصبحا مهيمنين بشكل عام على القيادات الحزبية باستثناءات محدودة، وكانت غالبية الأنشطة تدور في فلك المسلكية الحزبية والعمل الروتيني والإداري اليومي، أما التنظيرات فيتم ضخّها عبر المركز الأممي وإلحاقاته للأحزاب الشقيقة في مرحلة الكومنترن أو بعده، سواء فيما يتعلّق بفكرة التعايش السلمي والتطوّر اللّارأسمالي ودور “الديمقراطيين الثوريين” والتحالفات الطبقية والسياسية والموقف من القضايا القومية، ولاسيّما القضية الفلسطينية، في قراءة بعيدة في الكثير من الأحيان عن الواقع، وعن نبض الناس وانشغالاتهم.
يضاف إلى ذلك التعويلية والاتكالية التي اعتادت عليها الغالبية الساحقة من الإدارات الحزبية ، التي عاشت حالة ترهل وتقليد ومحاكاة للسائد، حفاظاً على مواقعها الحزبية، لاسيّما والمنافسات المشروعة وغير المشروعة بين القيادات كانت سائدة ومحمومة، حيث كان البعض يبالغ بولائه وتبعيته “للخارج الأممي” للاستقواء على الداخل الحزبي” بتوصيات من الأول هي الأقرب إلى التعليمات وتحديداً بالتعويل على موسكو أو الصين بالنسبة لبعض الجماعات المحسوبة عليه وتوجهاتها.
ولم يقتصر هذا الأمر على الحركة الشيوعية بل أن إدارات الحركة القومية العربية هي الأخرى لم تكن بعيدة عنه بجناحيها الأساسيين: الأول – الحركة الناصرية التي بلغت أوجها في مطلع الستينات، لكنها بدأت بالانكماش والجمود والتشتت بعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر العام 1970، بل إن بعضها لم يرتق إلى المرحلة المتقدمة الأخيرة من حياة عبد الناصر وتوجهاته التي ينبغي أن تؤخذ في سياقها التاريخي، ولم يعد الاكتفاء اليوم بشعارات عمومية لمواجهة مشكلات مستحدثة وعميقة. والثاني – حركة البعث التي تحوّلت في العراق من شعارات تحرير فلسطين والوحدة العربية والحرية إلى تمجيد وتقديس وتأليه “القائد الضرورة” التي أطلق عليه ميشيل عفلق وهو مؤسس الحزب “هبة السماء إلى الأمة وهبة البعث إلى الشعب ” ومثل هذا الوصف لم يأتِ حين اتخذ قراراً جريئاً بتأميم النفط العام 1972، وفي ظلّ حماسة رومانسية مثلاً، وإنما جاء بعد إعدام نخبة من قيادات حزب البعث في العام 1979 دون محاكمة أصولية، وفي مقدمتهم عبد الخالق السامرائي، وحرب ضروس مع إيران دامت 8 سنوات دفع العراق ثمنها باهظاً1980-1988 ووحدانية إطلاقية في الحكم لم يعرف العراق لها مثيلاً.
وقد سألت القيادي البعثي السابق الصديق صلاح عمر العلي عن تفسيره لذلك، فروى لي خلفيات ذلك بقوله: زرت ميشيل عفلق في باريس العام 1989، برفقة طلال شرارة وهو أحد القيادات البعثية اللبنانية سابقاً أيضاً، والتمسته البقاء في باريس وعدم زيارة بغداد وإعطاء تصريحات يستغلها الحاكم ويجيّرها لصالح مغامراته وارتكاباته، الأمر سيعطي انطباعاً بعدم رضائك عن سياسات الرئيس صدام حسين ، ويضيف العلي: لقد وعدني ميشيل عفلق بذلك ، لكنه بعد شهرين عاد إلى بغداد وأدلى بذلك التصريح (عن سابق إصرار) ويكاد يكون تصريحه الأخير الذي ختم به حياته السياسية، كاشفاً ضعفه المستمر.
أسوق هذه الأمثلة بهدف المراجعة الشاملة والنقد الذاتي للأفكار والممارسات الشمولية التي سادت لدى جميع القوى والقيادات، بعناوين معظمها مستمدة من كتاب لينين: ما العمل؟ أو ما سمّي بالمركزية الديمقراطية، ونظام الطاعة الفولاذي وخضوع الأقلية للأكثرية والهيئات الدنيا للهيئات العليا تحت عناوين وحدة الإرادة والعمل، وعدم التبشير بالآراء خارج نطاق التنظيم، ناهيك عن عقوبات غليظة، وهو الأمر الذي ساد لدى جميع الأحزاب الشيوعية التي كانت الطبعة الستالينية مهيمنة عليها.
وفي الأحزاب القومية والبعثية ، كان شعار “نفذ ثم ناقش” الأساس الذي اعتمدت عليها، وهو مستوحى من ذات المنهج الشمولي الشيوعي وقد اتبعته الأحزاب الإسلامية أيضاً، بما فيها “حركة الأخوان المسلمين والأحزاب الإسلامية الشيعية”، للتبريرات نفسها، ولاسيّما في ظروف العمل السرّي والخشية من اختراقات العدو، ولكن هذه العناوين ذاتها تحمل في طياتها توجّهات تسلطية وتسمح للقيادات باتخاذ قرارات نابعة من اجتهاداتها التي قد تكون مدمّرة، فما بالك حين تكون تلك القيادات لا تتمتّع بالحد الأدنى من التفكير السليم والثقافة العامة والمعرفة بمجتمعاتها، ناهيك عن نزاهة أخلاقية وشعور عال بالمسؤولية، وهكذا تم التفريط بالكثير من الكفاءات المخلصة والمواهب الواعدة بادعاء فهم خاص للآيديولوجيا وتطبيقاتها التي شهدت جرائم كبرى وأعمال إبادة لا حدود لها.
بين بكين وموسكو وهافانا لم تثرني الشعارات الصينية ، خصوصاً تلك التي ارتفعت موجتها في حمّى الثورة الثقافية والتي لوحق فيها المثقفون وأحرقت كتبهم واقتيدوا إلى معسكرات الاعتقال وجرى تشويه سمعتهم، بل كنت أقرب إلى فكرة التطور والتراكم ، خصوصاً السرعة الهائلة التي استطاع فيها الاتحاد السوفييتي إعادة بناء ما خربته الحرب والآمال التي عوّلت عليه بشأن التقدم العلمي والتكنولوجي، ووجدت في كلمة نيكيتا خروشوف (1960) من أن الاتحاد السوفييتي سيدخل مرحلة الشيوعية العام 1980 شيئاً كبيراً وعظيماً في السباق التاريخي بين الرأسمالية والاشتراكية، وهو ما كنت أميل إليه وشكل ركناً مهماً من تفكيري في تلك المرحلة، التي لا تخلو من رومانسية شبابية. وكنّا نردّد حينها أن السمة الأساسية لعصرنا هي ” الانتقال من الرأسمالية للاشتراكية”، لاسيّما بالتحالف مع “حركات التحرر الوطني” التي تقترب من معسكر الاشتراكية، وهو الذي سيتم عبره وبنضال الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية هزيمة الامبريالية باعتبارها حسب كتاب لينين “أعلى مراحل الرأسمالية” وذلك بالتعايش السلمي والصراع الفكري والمباراة الاقتصادية والمكاسب التي يمكن أن تتحقق للشعوب. كما لم أستسغ حينها الشعارات التي اجتاحت الوسط الشيوعي واليساري خلال الموجة الجيفارية مع أنني من أشد المعجبين بجيفارا كأحد أبرز ثوريي القرن العشرين ، وقد دونت ذلك في كتاب ” كوبا- الحلم الغامض”، الصادر عن دار الفارابي، بيروت، 2011، بعد زيارتي لكوبا، مقدّماً قراءة جديدة بعيدة عن التمجيد لتجربة تستحق الدراسة ولشعب عانى الحصار ومحاولات الإذلال، لأكثر من نصف قرن من الزمان، ويبقى أمامه اليوم اجتياز معركتي الحرّيات والتعدّدية من جهة، والحصول على التكنولوجيا، التي بدونهما لا يمكن لكوبا الاستمرار إلى ما لا نهاية في أوضاعها الحالية. وإنْ كنتُ قد عقدت صداقات حميمية مع العديد من الذين تأثّروا بالتوجه الجيفاري الثوري من العراقيين والعرب والفلسطينيين بشكل خاص في بغداد وعدد من البلدان العربية، وكنت أدخل بنقاشات طويلة مع العديد منهم، وقد ذكرت ذلك في أكثر من مناسبة، لكنه من الجهة الأخرى، كانت الآمال التي عقدتها على هذا التوجه الآخر تتبدّد ويطير بعضها، فقد كانت تراجعات الاشتراكية أمام الرأسمالية واضحة وصريحة حيث عانت الأولى من البيروقراطية والترهّل وشحّ الحرّيات وانتهاكات حقوق الإنسان ووصلت التنمية إلى طريق مسدود، خصوصاً وأن الكثير من الأرقام والمعطيات لم تكن صحيحة، بل مشوّهة وغير دقيقة وهو ما كانت تقدّمه أجهزة الدعاية الاشتراكية ووكالاتها الإعلامية وتقوم بنشره وكالة نوفوستي وأنباء موسكو وغيرها. وبنوع من المبالغة وسوء التقدير كنّا نتبنّى تلك المعلومات باعتبارها حقائق غير قابلة للشك، والهدف من ترويجها هو إثبات أفضلية وتفوق النظام الاشتراكي على النظام الرأسمالي، وكان البعض يغالي في نقد وتفنيد واتهام أي وجهات نظر أو معلومات مغايرة تحاول النيل من صحة أو دقة المعطيات المقدّمة من الدول الإشتراكية، ولاسيّما تلك التي تأخذ طريقها إلى الإعلام الغربي. وقد فوجئ جمهور الشيوعيين في بلادنا والعالم بأن التقرير الذي ألقاه خروتشوف بالمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي العام 1956، وهو المؤتمر الذي أدان الحقبة الستالينية وكشف بعض الارتكابات والجرائم التي قام بها الزعيم الذي كنّا نعتبره ” أبو البروليتاريا” العالمية و”محرر الشعوب” والقائد الفذ، العبقري، وبطل الحرب العالمية الثانية. وكم كانت الصدمة كبيرة حين اكتشفنا أن التقرير كان صحيحاً، بل هو أقل من الواقع بكثير؟ ولم يكن التقرير نسيجاً حيكَ من خيوط خارجية صنعت في المصانع الغربية، بل هو حقيقة ما كان يجري في الستار الحديدي ومعسكرات الاعتقال تلك التي تحدّث عنها لاحقاً المنشق سولجنستين في رواية ” أرخبيل كولاغ” حيث قضى فيها نحو 8 سنوات . يضاف إلى كل ذلك نهج الواحدية والإطلاقية وعدم الإقرار بالتنوّع والتعددية والرأي الآخر وحجب الأصوات المعارضة ومصادرة حق النقد وملاحقة المنتقدين واتهامهم، وقد دفع المثقفون قسطاً وافراً من ذلك. ولعلّ ذلك وغيره وبمرور الأيام ما أخذ يطرح أسئلة داخلنا وتململات مباشرة أو غير مباشرة يجري التعبير عنها بأشكال مختلفة، لكن انشغالاتنا الداخلية طغت عليها وإن كانت قد استمرت معنا وارتفعت وتيرتها مع بعض حركات الاحتجاج التي بدأت في البلدان الاشتراكية، وأتذكر ميثاق العام 1977- Charter 77 الذي أصدرته مجموعة المثقفين التشيكوسلوفاك منتقدة الأوضاع السائدة وشحّ الحريات، وقد كان ذلك شرارة أولى لحركة الاحتجاج الواسعة التي وصلت ذروتها بانهيار جدار برلين العام 1989، وتفكّك وتحلّل الكتلة الاشتراكية التي بدت هشّة وخاوية من الداخل، في حين كانت للناظر من الخارج تبدو قلاعاً محصنة على حد تعبير جون بول سارتر الذي سبقنا بنحو ثلاث عقود في رؤية هذه الحقيقة.
غورباتشوف : البريسترويكا في الوقت الضائع لا شكّ أن سباق التسلح وتخصيص الولايات المتحدة تريلوني دولار له خلال ما سمّي بـ حرب النجوم في مطلع الثمانينات ، ساهم في الانهيار السوفييتي وعدم القدرة في مجاراتها، وقاد هذا إلى التراجع غير المنظم ولم تفلح محاولات غورباتشوف بشأن البريسترويكا والغلاسنوست لإعادة البناء والعلانية ، فقد جاءت متأخّرة وغير متدرّجة ودون تهيئة واستعداد، ولم تكن مدروسة، بل كانت فوقية، في ظل غياب قناعات للتغيير وفقاً لتراكم طويل الأمد ومستلزمات مادية ومعنوية، وخصوصاً لشبكة الكوادر الحكومية والإدارية والحزبية والجماهيرية ووضع معالجات اقتصادية واجتماعية وثقافية وقانونية وتربوية ونفسية لتحقيق ذلك، علماً بأن الخراب كان قد انتشر والانسداد الاقتصادي والتنموي أصبح حقيقة ظاهرة والترهل الحزبي والحكومي والفساد المالي والإداري صار جزءًا من الروتين اليومي، فضلاً عن شح الحرّيات وقلّة الأجور وعدم تلبية حاجات الناس المتعاظمة تماشياً مع التطور الكوني، بحيث أصبح الإصلاح عسيراً، لاسيّما بوسائل قديمة. يضاف إلى ذلك الاختراقات الكبيرة التي جرت من جانب القوى المعادية للإمبريالية في “حرب ناعمة” مدّت جسوراً عبرتها البضائع والسلع والأفكار والسيّاح على حد توصيفات المجتمع الصناعي – الحربي، الذي استخلص ذلك من “مجمّع العقول” أو “تروست الأدمغة” الذي عمل بمعيّة الرئيس كيندي والذي عبّر عنها الرئيس جونسون بحرب الجسور لتهيئة التغيير المنشود دون بزّات قتال واشتباكات عسكرية، بل بواسطة وسائل الحرب النفسية والآيديولوجية والدعائية، حتى سقطت التفاحة الناضجة بالأحضان.
طريق الحرير والحزام وفلسطين كثير منّا بسبب حالات القنوط واليأس والتشاؤم من إصلاح الأوضاع، وخصوصاً في ربع القرن الماضي عوّل على الصين التي ستربح المعركة وتتفوّق في مشروع التنمية المستدامة 2030 اقتصادياً على واشنطن وستبني طريق الحرير الجديد ” الحرير والحزام” الذي سيغيّر وجه العالم، وذلك في إطار تعويضية نفسية لفقدان القدرة على التأثير المتوازن بفعل اختلال المعادلة الدولية ومعاناتنا من صدمة الاستعمار وصدمات النكبة 1948 والهزيمة 1967 وضياع فلسطين والانحياز الكامل من جانب الغرب وبشكل خاص الولايات المتحدة لـ”إسرائيل”. وقليل منّا من أخذ ينظر إلى الصين من منظور مختلف، فهي في نهاية المطاف ليست الصين التي في رومانسيتنا اليسارية الطفولية السابقة أو التي ظلّت تدور في مخيّلتنا الحالمة بالتغيير ونظامها ليس هو الذي كنّا نعوّل عليه في مطلع الخمسينات ، خصوصاً بدعم القضية الفلسطينية وقضايا الحقوق العربية، وهو حتى وإنْ تفوّق على الولايات المتحدة فما الذي سيفيدنا وإنْ كانت الفائدة غير مباشرة بإضعاف أعدائنا، لكنه من الجهة الأخرى سيضعنا حين يعزز علاقاته مع عدونا الأساسي “إسرائيل”، وهذا سيكون على حسابنا أراد أو لم يرد ذلك . لم تتم مراجعة الكثير منّا للتجربة الصينية، فكيف يمكن غضّ النظر عن ارتكابات وإن أصبحت شائعة، واعتبارها مجرد مبالغات كثيرة ، بل هي جزء من الدعاية السوداء للامبريالية، وهي ليست بعيدة عن الصراع الأيديولوجي، حيث يبقى “الإنسان مقياس كل شيء” على حد تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس والحرّية هي القيمة العليا ومن يقرأ رواية “بجعات بريّة- دراما الصين في حياة نساء ثلاث – 1909-1978 ” لمؤلفته يونغ تشانغ، يدرك حقيقة المعاناة الإنسانية والواقع المرير الذي عانى منه الصينيون الذي تعرضوا لمحق إنساني حقيقي. وإذا كان ذلك ماضياً ، فبكين تنافس اليوم واشنطن وتتربّع على قمة الاقتصاد العالمي كثاني دولة في العالم وفي سباق محموم معها إلى العام 2030، ولكن علينا أولاً وقبل كل شيء البحث عن موقعنا في هذا التقدم وكيف يمكن توظيفه في الكفاح الوطني العربي من أجل استعادة حقوقنا، ولاسيّما ارتباطاً مع بؤرة التوتر ومشروع الحرب المستمرة في المنطقة وأقصد بذلك “إسرائيل”؟ ما يلفت انتباهي اليوم هو التحوّل الكبير الذي طرأ على السياسة الصينية ، وخصوصاً في موضوع العلاقة مع “إسرائيل”، فقد كانت الصين تعتبر “إسرائيل” قوة احتلال وسلطة اغتصاب وقاعدة متقدّمة للإمبريالية، كما تصفها، إلّا أن التغييرات التي حصلت على النطاق العالمي واختلال موازين القوى الدولية والتحوّلات الداخلية في الصين، ناهيك عن النكوص العربي وغياب الحد الأدنى من التضامن العربي، شجّع الصين وغيرها على المضي في هذا الاتجاه، علماً بأن للعلاقات العربية- الصينية تاريخ طويل ، ولا أتحدث عن الماضي السحيق وطريق الحرير ووصول العرب والمسلمين إلى الصين، بل العلاقات المعاصرة. يكفي أن نلقي نظرة سريعة على ذلك منذ نجاح الثورة الصينية في العام 1949، التي لقيت حماسة عربية شعبية ، لاسيّما بعد لقاء الرئيس الرئيس المصري جمال عبد الناصر مع الرئيس الصيني شوان لاي في مؤتمر باندونغ الأفرو آسيوي، والذي كان نواة لتأسيس حركة عدم الانحياز العام 1961 ومجموعة الـ 77 لاحقاً ، وقد أقيمت العلاقات الدبلوماسية المصرية- الصينية الرسمية في 30 مايو (أيار) 1956، أما العلاقات الدبلوماسية السورية – الصينية فقد بدأت في 1 أغسطس (آب) 1956 وتطوّرت بوتيرة عالية . وكانت العلاقات العراقية – الصينية قد بدأت باعتراف الصين يوم 16/7/1958 بالنظام الجمهوري في العراق وبعدها بيوم واحد اعترف العراق بجمهورية الصين الشعبية ، علماً بأن الصين من بين الدول الأولى التي دعمت الثورة الجزائرية واعترفت بالحكومة المؤقتة بعد إعلانها في سبتمبر 1958 حيث أقيمت لاحقاً العلاقات الدبلوماسية الجزائرية – الصينية، كما وقفت إلى جانب الثورة في الجنوب اليمني، حيث أقيمت العلاقات الدبلوماسية اليمنية – الصينية في 24 سبتمبر (أيلول) 1956 مع الشطر الشمالي (جمهورية اليمن العربية) وبعد تحرير الجنوب تأسست العلاقات بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وجمهورية الصين الشعبية في يوم 1 يناير(كانون الثاني) 1968 . وقبل ذلك كانت الصين قد ساندت مصر ضد العدوان الثلاثي الأنكلو فرنسي “الإسرائيلي”، واتّخذت مواقف مؤيدة للحقوق العربية في مؤتمر باندونغ لعدم الانحياز العام 1955 واعترفت في العام 1965 بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد وشرعي للشعب العربي الفلسطيني وافتتحت مكتباً لها، ووقفت إلى جانب العرب ضد العدوان الإسرائيلي العام 1967.
وماذا عن “إسرائيل”؟ فما الذي يدفع الصين لتوثيق علاقاتها مع “إسرائيل”؟ والتي ستكون على حساب حقوق الشعب العربي الفلسطيني، حيث ستتمادى “إسرائيل” في تعنتها وعدم استجابتها إلى حل سلمي وعادل أساسه حق تقرير المصير وإقامة الدولة الوطنية وعاصمتها القدس الشريف. ولعلّ هذا السؤال المحوري بحاجة إلى تفصيل وتفكيك. وحسبما يبدو إن الصين تريد عن طريق علاقتها مع ” إسرائيل” اختراق منطقة النفوذ الأمريكي من خلال أسواق تعويضية ، خصوصاً حين استخدمت واشنطن العقوبات ضدها بفرض رسوم جمركية ثقيلة على البضائع والمنتجات الصينية للحيلولة دون انتشارها في السوق الأمريكية . وعن طريقها تريد بيع الروبوت ” الإنسان الآلي”، إضافة إلى بعض تكنولوجيا الفضاء والأقمار الصناعية وتوظيفها في قضايا التجسّس. وبالعودة إلى تاريخ العلاقات “الإسرائيلية”- الصينية فإن “إسرائيل” بادرت إلى الاعتراف بالصين في يناير(كانون الثاني) 1950 ، لكن الصين اكتفت بإرسال رسالة شكر باردة حتى وإن اعترفت بها ، لكن العلاقات الدبلوماسية لم تنشأ إلّا في التسعينات، وهو الأمر الذي سارت عليه العلاقات الإسرائيلية- الهندية أيضاً، حيث حصل الاعتراف في الخمسينات، لكن العلاقات لم تقم إلّا في التسعينات أيضاً ويمكن القول أن العلاقات الصينية- “الإسرائيلية” مرّت بعدّة مراحل وهي: المرحلة الأولى – الخمسينات والستينات والتي شهدت إحجاماً من جانب الصين على التعاطي مع “إسرائيل” الذي وصل ذروة تشدّده ضدها في الستينات. المرحلة الثانية – السبعينات فقد بدأت بمدّ الجسور لتهيئة الأجواء لإقامة العلاقات الدبلوماسية لاحقاً وبدأت بعد قبول الصين عضواً في الأمم المتحدة التي استعادت موقعها في مجلس الأمن الدولي كعضو دائم العضوية. المرحلة الثالثة – التسعينات ، وهي مرحلة التطبيع الكامل وقد أقيمت العلاقات الدبلوماسية في يناير (كانون الثاني) 1992 كما سنأتي على ذكره. وبقدر ما كانت تتعزّز علاقة الصين بـ”إسرائيل” فإن الموقف من القضية الفلسطينية كان يأخذ بالفتور، بعد أن مدّت الصين الثورة الفلسطينية والعديد من قوى التحرر العربية بالسلاح والمساندة، وأتذكّر تصريح رئيس الوزراء الصيني والشخصية المؤثرة حينها بعد ماوتسي تونغ، شوان لاي على هامش مؤتمر حركة عدم الانحياز في الجزائر العام 1964 مخاطباً الفلسطينيين والعرب بالطبع: “فجرّوها ولو بعود كبريت، فقضيتكم عادلة” وهو ما كنّا نتغنّى به، لكن هذا الموقف تغيّر ارتباطاً بتغيّر الأوضاع. جدير بالذكر أن الاستثمارات الصينية الكبرى في ” إسرائيل” تعود إلى العام 2015، علماً بأنه في العام 2000 قام الرئيس الصيني جيانغ زيمين بزيارة لـ “إسرائيل” ورداً عليها كلّفت “إسرائيل” إيهود أولمرت وزير التجارة والصناعة “الإسرائيلي” الأسبق (قبل أن يصبح رئيساً للوزراء) بزيارة الصين في العام 2004 على رأس وفد ضخم لم يسبق لـها أن أوفدت مثله إلى أي دولة في العالم، وضم الوفد أكثر من 200 شخصية قيادية للقطاعات كافة وبضمنه رجال أعمال معروفين ، وحين أصبح أولمرت رئيساً للوزراء عاد وزار الصين في العام 2007. وأود التنويه هنا إلى أن بنيامين نتنياهو كان قد زار الصين في العام 1998 أي قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، وقد كانت زيارته المهمة إلى بكين في العام 2013 بدعوة من الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي دعا في المدة ذاتها الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أيار/مايو/2013) وطرح عليهما مشروعاً للتسوية السياسية وإعادة المفاوضات تألف من أربعة مقترحات، أولها – إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة وعاصمتها القدس، ثانيها – احترام حق “إسرائيل” في الوجود وضمان الاحترام الكامل لأمنها واعتبار المفاوضات الطريق الوحيد لتحقيق السلام بين الطرفين ، وثالثها- اتباع مبدأ الأرض مقابل السلام وفقاً لمقررات الأمم المتحدة ورابعها- حث المجتمع الدولي على تقديم ضمانات ضرورية لدفع عملية السلام، وأبرمت خلال تلك الزيارة العديد من الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية الإسرائيلية – الصينية ، وكان ذلك بعد أن رفع العرب الحرج عن مثل هذه العلاقات مع تل أبيب وبدأ الأمر تدريجياً منذ اتفاقيات كامب ديفيد 1978-1979 واتفاق أوسلو العام 1993. وقد بدأ التقارب “الإسرائيلي” – الصيني العملي في العام 1971 حين صوتت “إسرائيل” لصالح قبول الصين في الأمم المتحدة، وفي عقد الثمانينات شهدت العلاقات خطوات تمهيدية لإقامة التمثيل الدبلوماسي، لاسيّما بعد لقاء شمعون بيريز مع نظيره الصيني تشيان تشي تشن (أيلول/سبتمبر/ 1988) في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكانت التسعينات هي مرحلة الانفتاح الدبلوماسي والاقتصادي على “إسرائيل” التي حصلت على اعتراف أكبر دولة في العالم من حيث عدد النفوس بعد أن بدأت علاقاتها تعود بالتدرّج مع الدول الاشتراكية السابقة (منذ منتصف الثمانينات) واستعادت ” إسرائيل” علاقاتها مع عدد كبير من الدول الأفريقية التي تم قطعها إثر عدوان العام 1967 وحرب العام 1973 (حوالي 30 دولة)، وحصل ذلك في ظل التراجع العربي وبعد اجتماعات مدريد تمهيداً لاتفاق أوسلو 1993. وهكذا بدأت تتعمّق العلاقات الصينية – “الإسرائيلية” في مجالات علمية وتكنولوجية واقتصادية وعسكرية وأمنية وتجارية، حيث تبرعت الصين ببرنامجيات حديثة وتقنيات الكومبيوتر إلى ” إسرائيل” وتطمح إلى الاستفادة من تطوير وتجهيز الطائرات المسيّرة التي تستخدم في الرصد والمتابعة والمراقبة والتصوير. ولا يعني هذا أن الصين تهمل العلاقة مع العرب، حيث كانت الزيارة الأولى للملك السعودي عبدالله في العام 2006 وقعت خلالها خمس اتفاقيات حول الطاقة وتعتبر فتحاً كبيراً في العلاقات الصينية – السعودية التي احتفت بها كثيراً علماً بأن العلاقات الصينية – السعودية أقيمت في العام 1990، وبدأت زيارات عربية عديدة مصرية وعراقية ، لكنها لم تستكمل أو لم تكن بمستوى العلاقات مع تل أبيب، ولقيت معارضة أمريكية، وهو ما بحاجة إلى منظور استراتيجي متوازن للعلاقات العربية مع الدول الكبرى وأساساً تعاون وتنسيق عربي لما فيه فائدة الجميع، لاسيّما إذا اتسم برؤية موحدة على أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة. آيديولوجيا التجارة علينا أن ندرك أن مرحلة الآيديولوجيا في الصين قد انتهت ، على الرغم من أن الحزب الشيوعي الصيني ما يزال حاكماً ومهيمناً، بل مستأثراً بحق العمل السياسي والنقابي والمهني ، وقد عقد مؤتمره الأخير في آب /أغسطس 2019، إلا أن العقل الصيني التجاري بالتلاقح مع التراث الفلسفي والثقافي غلب على الفكر الشيوعي، خصوصاً بإحياء تراث لاوتسه وكونفوشيوس وغيرهما، لاسيّما العودة الحميمة إلى الثقافة والتاريخ الصيني القديم، باعتباره ذخيرة فكرية وإنسانية محفّزة لأوضاع الحاضر، بعد أن شهدت الصين قطيعة أبستمولوجية (معرفية) معه خلال الثورة الثقافية، وعاد الاعتزاز بالتراث والتاريخ الصيني كونه إثراءً للحاضر واستشرافاً للمستقبل، بعد أن تم تطليق مرحلة التزمت الآيديولوجي وأمراض اليسارية الطفولية، واستبدالها بمرحلة الانفتاح الاقتصادي والانتشار التجاري، والحديث بلغة المصالح وليس بلغة العقائد. وإذا كان جيلنا برومانسيته العالية ما زال يتذكّر الشعارات الصينية “الثورية” والتي تأثر بها العديد من تجارب الكفاح المسلح والحركات التحررية العربية والعالمثالثية، إلّا أن علينا الإقرار بأن تلك المرحلة قد طويت تماماً ولم وتبقَ إلّا في كتب التاريخ وذاكرتنا المتعبة، فلم تعد القيادات الصينية ترتدي طواقم الملابس الخشنة والموحّدة والصالحة لكل المناسبات باعتبارها دليل “ثورية” مفرطة وطفولية يسارية ومساواة شكلية ، فإنها اليوم في ظلّ ثقافة السوق والعرض والطلب والمنافسة الاقتصادية والتمدّد التجاري ومنطق المصالح الذي يتقدم على كل شيء، أخذت تضاهي الغرب وأنظمته الرأسمالية بآخر صيحات الموضة العالمية وبحبوحة العيش والبذخ المفرط . وإذا كان الماضي قد أصبح خلفنا بما فيه من مراهقة سياسية، فعلينا أن ندرك اليوم أن العالم لا يُدار بالعقائد والعواطف والتمنيّات، بل وفقاً للمصالح والمنافع والمنافسة ، وهو ما ينبغي أن يكون ماثلاً أمامنا، فالسياسة كانت وما تزال وستبقى ” صراع واتفاق مصالح” في أبسط تعريفاتها، أي علينا الاستفادة من دروس الماضي، فلم يعد ثمة مكان لذلك ، حيث تغيّر العالم كثيراً وتشابكت علاقاته وتداخلت مصالحه وانشطرت محاوره وتشكّلت كتل جديدة، فالماضي مضى ولا يمكن استعادته. وعلينا كعرب أن نعي ذلك وندرك الواقع ونتفهم مستجداته وتبعاته وبالتالي التعامل منه. علينا أيضاً أن نشخّص نقاط ضعفنا ونعالج أسباب تشتت مواقفنا وغياب الحد الأدنى من التضامن بيننا، ناهيك عن التعاون والتنسيق، وليس بإمكاننا اليوم استخدام سلاح النفط مثلما فعلنا بُعيد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 والذي كان تأثيره فعّالاً، وما تزال أصداؤه حتى الآن، وقد أحدثت تلك الصدمة، إضافة إلى انهيار سوق الأوراق المالية 1973-1974 أزمة كبيرة على المستوى الكوني، لاسيّما حالة الكساد والانكماش الاقتصادي التي أصابت العالم. وإذا أدركنا أن العالم تغيّر فعلينا أن نتغيّر أيضاً، وذلك باعترافنا أولاً وقبل كل شيء أننا نعيش في أزمة مستفحلة وأن بعض الأوراق التي كان بإمكاننا استخدامها في السابق لم يعد ممكناً استخدامها حالياً، وعلينا بعد ذلك تشخيص أسبابها وسبل الخروج منها، وتلك طريق لا يتسع لوهم جديد، بل ينطلق من الواقع.