يوم الثلاثاء 8/10/2003 انعقد البرلمان التركي ليصوت على مشروع (تأمين عراق ما بعد الحرب) بإرسال قوة عسكرية كبيرة إلى بغداد لضبط الأمن فيها وحمايتها من الميليشيات الطائفية ونحوها، وجاءت النتيجة معبّرة عن قراءة متقدمة وواعية للمشهد العراقي والتحديات المحيطة به، حيث صوت 358 نائبا بالموافقة وهم أعضاء (العدالة والتنمية)، في مقابل 183 وغالبهم من التيار القومي أو التيار الليبرالي، يذكر هنا أن تركيا كانت قد منعت القوات الأميركية من استخدام أراضيها لغزو العراق، وهذا يؤكد أن الأتراك ينطلقون من مواقف مبدئية وقراءة سليمة ومتوازنة للمشهد.
رفض مجلس الحكم العراقي هذا المشروع، بحكم هيمنة الأطراف المرتبطة بإيران كحزب الدعوة بشقيه والمجلس الأعلى وحتى التيار الصدري والفضيلة، وكان الشارع الشيعي كله بمراجعه الدينية والمجتمعية متناغما مع المجلس.
الأحزاب الكردية كان موقفها لا يختلف كثيرا عن الأحزاب الشيعية، وذلك بسبب التوتر القائم آنذاك بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، قبل أن تتمكن حكومة أردوغان من تفكيك هذا الملف وفتح علاقات متوازنة وطيبة مع إقليم كردستان.
أردوغان لم يكترث كثيرا بهذا الرفض فقد كان متوقعا، إلا أنه كان يتطلع لموقف (السنّة العرب) وهم الطرف المتضرر من التفرد الإيراني، بيد أن موقفهم جاء مرتبكا ومرتجلا، وربما وصل إلى حد تهديد الأتراك، حيث قال أحد وجهائهم: «نحن لا نفرّق بين الاحتلال الأميركي والاحتلال التركي» وقال: «نحن لا نريد أن يراق الدم التركي بسلاح المقاومة العراقية» وقال آخر: «اطمئنوا فنحن لن نسمح للقوات الأميركية بالخروج قبل أن تذعن لشروطنا» وقال ثالث: «سيخرج هؤلاء السياسيون مع الغزاة أو قبلهم وسيبقى العراق لأهله كما كان»، لقد كانت الردود مزيجا من أفكار قومية وأحلام طوباوية وشيء من الغرور المركب.
أجهض السنّة هذا المشروع، فأدار الأتراك ظهرهم للعراق عدا العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية، مما ولّد فراغا كبيرا تمكنت إيران من التمدد فيه بسهولة ودون مقاومة تذكر.
العرب لم يفكروا بإرسال قواتهم ولا أي شيء آخر سوى فتح سفاراتهم لضمان التواصل الدبلوماسي مع العراق، وهي خطوة تعزز الهوية العربية وتشكل نوعا من التوازن الرسمي في مقابل إيران، لكن العرب السنّة رفضوا هذه الخطوة ببيانات فاقعة تتهم هذه الدول بأنها تتعمد إضفاء الشرعية على (حكومات الاحتلال)، ثم مهرت القاعدة (العراقية) هذا الرفض بعملية بائسة وسط العاصمة الأردنية في فندق كانت تقام فيه حفلة عرس، وقد أظهر التلفزيون الأردني صورة لامرأة عراقية من الرمادي ترتدي حزاما ناسفا لتفجيره وسط الأردنيين!
لقد نجح السنّة العرب في لفّ الحبل على أعناقهم، فهم يقاتلون الأميركيين وحلفاءهم، ويقاتلون إيران ومشاريعها المختلفة في المنطقة، ويحذّرون تركيا والدول العربية من التدخل في شؤونهم، ويختصمون مع إقليم كردستان لأنه (نواة لتقسيم العراق)، ثم رأيت في الآونة الأخيرة من لديه استعداد لمخاصمة السعودية والإمارات لموقفهما الأخير من الأزمة المصرية، دون أن يسأل نفسه عن موقف إخوانه المصريين من معاناة أهل السنة وهي المعاناة الأقدم والأشد بكل المقاييس.
إن السنّة العرب لم يتعلموا الدرس حتى اللحظة، ولم ينجحوا في كتابة مراجعة صريحة وشفافة لتجربتهم المريرة، وما زال الكثير منهم يفتقر إلى المعلومات الأساس عن واقعهم، وفي أحد اللقاءات صارحني بعضهم أنه أول مرة يسمع بمشروع تركيا (تأمين عراق ما بعد الحرب)، ومع هذا تراهم يشكون أن العالم العربي والإسلامي قد تركهم وحدهم وتغافل عن قضيتهم ومصيرهم!
إنني هنا وأنا أصارح أهلي وإخواني بأسباب حصارهم وعزلتهم لا يعني أنني أبرر مواقف الأشقاء، والتي وصلت إلى حد غير مفهوم، فقد قلت لمن أعتقد فيه أنه قريب من صنع القرار في إحدى الدول العربية: إننا نقدر الوضع السياسي العام والعلاقات الدولية والإقليمية المعقدة، ولذلك فنحن لا نرجو منكم أكثر من أن تفكروا بتأمين كفاءاتنا العلمية والتصنيعية، لأن هذه الثروة هي ثروة الأمة كلها، وهي الآن مستهدفة بالتصفيات الجسدية يوميا، وبعضهم قرر الهجرة للغرب، وفي دولة أخرى طرحت اقترحت أن يأخذوا المتفوقين من طلابنا من شتى التخصصات ليكملوا دراستهم، وسيكون هؤلاء سببا في نهضة العراق من جديد، وسببا كذلك في تعميق الثقة والصلة معكم لأنهم أبناؤكم وفي أعناقهم دَين البر بآبائهم ومعلميهم، حقيقة لم أفهم سبب التردد والتلكؤ سوى حالة الشلل العام التي يمر بها النظام العربي، ولا أدري إن كانت الحكومات العربية على علم بعدد الطلاب السنّة الذين تستوعبهم إيران سنويا في جامعاتها ومعاهدها؟
إن كل تلك النتائج الخطيرة التي تولّدت ونمت بعد سقوط بغداد كان يمكن احتواؤها والحد من تداعياتها، بيد أن الحقيقة الأخطر والأكبر والتي تكشفت بعد السقوط هي تلك المتعلقة بطبيعة الشعب العراقي نفسه، وقد كنت قرأت مقالة لكاتب عراقي شيعي مقيم في لندن وصف الشعب العراقي بأنه ليس شعبا واحدا، بل هو ثلاثة شعوب لا تجتمع إلا بقوة السلطان، وقد قال بوضوح: إن الشيعة وجهتهم إيران ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، وإن السنة العرب وجهتهم الجزيرة العربية، وأما الكرد فوجهتهم الحلم القومي الكبير الذي يجمع شتاتهم في دولة واحدة، وكانت هذه المقالة قبل الاحتلال، وأعترف الآن أني قد ظلمت الرجل وظننت أنه ربما يكون جزءا من مشروع صهيوني لتفتيت العراق والمنطقة، لكن تبين الآن أننا نحن الذين كنا ندس رؤوسنا في الرمال لكي لا نرى الواقع على حقيقته، بل لنعيش مع الصورة التي نحب أن يكون الواقع عليها ولو كانت من نسج الخيال.
نعم لقد كان الشيعة منذ اليوم الأول يعتبرون الاحتلال تحريرا، ومواقفهم منذ ذلك اليوم وحتى اليوم منسجمة مع ثقافتهم وتاريخهم، ولذلك لم يظهر صوت واحد يندد بما تقوم به عصابات المالكي من قتل واعتقال واغتصاب وانتهاك لكل الحرمات في الأنبار والحويجة وديالى والموصل، مع وجود وشائج القربى بين أغلب القبائل هنا وهناك، بل لقد تولّد لديهم شعور طاغ أن الفرصة أصبحت مواتية لتشييع العراق بالكامل وسحق الوجود السنّي وإنهائه، وهذا يفسر اختفاء مشروع (الإقليم الشيعي) والذي نادى به الحكيم بعد الاحتلال مباشرة.
أما الكرد فلا شك أنهم نجحوا في صناعة النموذج الأمثل نسبيا، ونأوا بأنفسهم عن (مطحنة العراق) ويسجل لهم بحق أنهم تجاوزوا ثقافة (الثأر) وإشكالات الماضي إلى ثقافة (البناء) وصناعة المستقبل.
أما السنّة العرب فما زالوا غارقين في الجدل (الأيديولوجي) والحلم (الوطني) وتجريب الحلول الأحادية في حلقة فارغة ومفرغة، من السلاح إلى البطاقة، ومن البطاقة إلى السلاح.. وهكذا دواليك، ليلقي كل طرف منهم اللوم في نهاية كل دورة على الطرف الآخر.
لكي لا أغش القراء، المصير العراقي مجهول، وإيران هي اللاعب الإقليمي الوحيد، وإذا لم تنتبه الأمة لهذا الواقع فإن بوابتهم الشرقية ستنهار بأسرع من المتوقع، ولا يفهم من كلامي أني أدعو لمساعدة السنّة فهذه لم تعد لها قيمة وقد تضر أكثر مما تنفع، الحل ببناء المشروع الذي يحقق الحد الأدنى من التوازن، وإلا فويل للعرب من شر قد اقتر .