الدبلوماسي الفرنسي الشهير شارل موريس تاليران، كان مثل قبعة نظام راسخ أمام رياح مواطنه نابليون التي ضربت أوروبا والعالم غزوًا وأفكارا. أصرَّ دائما على أن يُذكِّر الإمبراطور بأن العالم ليس دراجة بخارية، وأن “حرية، إخاء، مساواة” كما أثبت التاريخ بعد ذلك، برميلٌ من النفط.. تسعون في المئة منه سياسة وعشرة في المئة اقتصاد.أحد أهم الدروس التي قدَّمها هذا الدبلوماسي القبعة للإمبراطور الشهير أنهُ ملأ غابة تقع في أملاكه بالأرانب كي يستطيع نابليون صيد ما يشاء منها دون مشقة. كان درسًا ساخرا عن الفرق بين الدبلوماسية، وشقيقتها التي تتواجد في أزمات العالم.. دبلوماسية الشخصية الكاريزمية والأعوان الذين يرون العالم بعيونه.بعد هزيمته في معركة واترلو عام 1815، وما جرى بعدها من تداعيات سياسية، حاول نابليون التأكُّد إن كان يستطيع قياس وزنه بقبعة. رمى قبعته على الأرض أمام كليمنس فون مترنخ، وزير الخارجية المخضرم للإمبراطورية النمساوية الهنغارية. عندما لم يلتقط هذا النمساوي الداهية قبعته علِم الإمبراطور أن زمنهُ ولَّى.
أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، قرر يوم 7 ديسمبر 2023 أن يلبس إحدى قبعات الفصل الخامس عشر من ميثاق الأمم المتحدة. اختار المادة التاسعة والتسعين كي يُعلِن أنّ ما يجري في فلسطين “غزة” بات يُهدِّدُ “السِّلم والأمن الدوليين”.السؤال البارد هنا: هل كان ما أعلنه غوتيريش دعاية لقبعة تاليران أم نابليون؟
ميديا العالم صوَّرت لنا لجوء غوتيريش إلى المادة الـ99 بـ“الحدث النادر”، أو ربّما نصيحة جنتلمان يقِفُ على قمة جبل لينصح المتحاربين في وادٍ أسفله. الحقيقة أنَّ هذه المادة وموقف الأمين العام كانا قذيفة تقليدية صُنِعت من مواد كثيرة في ميثاق الأمم المتحدة، مثل المواد الواردة في الفصل الرابع من الميثاق من (10 – 14)، رغم التقييدات الواردة في المادة الثانية عشرة منه.فطيرةُ حفظ الأمن والسلم الدوليين، عمومًا، لم يستطع مجلس الأمن إنضاجها إلَّا مرَّات قلائل. أغلبُ تلك القلائل كان خاصًّا بأوروبا، لكن كما علَّمنا التاريخُ الأممي فإننا كلما ابتعدنا عنها كانت قراراتُ المجلس فَطِيرا لا فطيرة. وهكذا تحوَّلت المادة الـ24 الموجودة في الفصل الخامس إلى فرنٍ مهجور، رغم أنها تعطي مطبخ مجلس الأمن الصلاحية الحصرية لمواجهة الأخطار التي تُهدِّد أمن العالم.
الفقرة الثالثة من المادة السابعة والعشرين الأممية تعطي أيضا الأمين العام القُدرة على نقل قضية فلسطين مرّة أُخرى وليست بالأولى إلى الجمعية العامة. الفشل المتكرر لمجلس الأمن هو ما يعطي الجمعية العامة، وبالأغلبية التصويتية البسيطة لأعضائها، فُرصة سحب قضايا مثل فلسطين وكوبا كقضايا “إجرائية”، بعيدًا عن فيتو الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن.الجمعية العامة استطاعت أن تُميَّع الحدود الفاصلة مع مجلس الأمن، وبحسب عالم السياسة الواقعي هانز مور غنثاو، بقرار “الاتحاد من أجل السلام” الذي أعطاها فُرصة تأسيس “لجنة الإجراءات الجماعية” للحفاظ على السلم والأمن الدوليين.
تصريح السيد غوتيريش عن الوضع في فلسطين تزامن أيضا مع تصريحٍ لمجموعة “إيلدرز” التي أسسها نيلسون مانديلا، والتي تضمُّ أعضاءً حاصلين على جائزة نوبل وأمناء عامين سابقين للأمم المتحدة مثل بان كي مون وكوفي أنان. الأبرز أنه جاء بعد أن أظهرت الدول الأعضاء فيما يخصُّ غزة، للتعاطي مع فلسطين كمسألة لا تؤثِّر على ارتباطاتها مع الدول الخمس العظمى. أو إذا أردنا استخدام علكة التحليلات السياسية الأشهر “المصالح الجيواستراتيجية” فإنّ الحل الأفضل المؤرّخ في المنظمة الأممية تحت يافطة “حل الدولتين”، لن يصيب مصالح أيٍّ من القوى العظمى بالضرر، لكنه سيفتح الباب أمام موسكو وبكين في الشرق الأوسط.
غوتيريش استفاد أيضا من ثروة الرأي العام الدولي الذي تُجسِّدهُ المنظمة الأممية. ذكّر الجميع بأن الأرنب الوحيد الذي يستأهل الصيد في فلسطين هو الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. الأرانب الأُخرى التي أطلقتها واشنطن وبروكسل، ومنها حق “الدفاع عن النفس” بالنسبة إلى إسرائيل، لا تعدو كونها “كليشيه” إعلاميّا، يحاول تمييع الشُرع الأممية والمواثيق الدولية فيما يخصُّ الاحتلال وحركات التحرر.
الموقف الأميركي وزائدته الأوروبية في فلسطين خطير جدا. هو يكشِفُ عن قرارٍ ثقافي واجتماعي لأروقة القرار الأميركية، بنقل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي من ملفات السياسة الخارجية إلى الداخلية، بعد تسرُّب زيت الدين والنقاء العنصري له، بعد أن كان طيلة عقود محفوظا في جرَّة مجلس الأمن القومي الأميركي.واشنطن عليها أن تفهم أن رؤية العالم لفلسطين اليوم تسير عكس الدُعابة التي تداولها المسؤولون في وزارة الخارجية أيّام الرئيس دوايت إيزنهاور عن قوة اللوبي الصهيوني بحسب جانيس ج. تيري “أن رئيس دائرة فلسطين يجب أن يكون طويلاً جدا لأن الرجل القصير ستغمره البرقيات الصهيونية في أوقات الضغط”.
الرئيس جو بايدن مطالب اليوم بأن يسمع منَّا هذهِ الدُعابة الإنسانية، مفادُها “ولد صغير لم يُكمِل العاشرة من عُمرِه، يعيش في الشرق الأوسط، حرَّم على أهله استهلاك كُل المنتجات التي قد تستفيد إسرائيل من بعض فواتيرها، علمًا أن لوحه العقلي لم يكُن منقوشًا بإزميل ثقافة دينية أو قومية؟”.المسألة الأهم أن حدث 7 أكتوبر الفلسطيني، وفيما يخص تداعياته داخل الأمم المتحدة، ربّما قد يدفعُ الجمعية العامّة فيها وبشكلٍ جدي إلى أن تُطالب بتمثيل صوت أغلبية أعضائها، كصوتٍ أصيل (أقترح أن تكون له قيمة صوتين) من ضمن أصوات الدول دائمة العضوية، لمحاولة معالجة ما وصفهُ مور غنثاو بـ“الشذوذ الدستوري” للميثاق الأممي الذي دفع ومازال يدفع كلّا من الجمعية العامة ومجلس الأمن إلى مُعالجة القضايا بطريقتين متناقضتين. ذلك سيكون أفضل من خيار جَزَرَة انضمام دول جديدة إلى مجلس الأمن الذي عرضه الرئيس بايدن على الدول الأفريقية في وقتٍ سابق.
العالم يحتاج إلى الدبلوماسية اليوم أكثر من السابق. ولا أعتقد أنّ تأثير واشنطن وبروكسل يستطيع أن يؤمِّن قُدرة استقطاب أصوات الأعضاء في الأمم المتحدة، كما استطاعتا تأمينها سابقا زمن الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي. ارتفاع ميزانية استقطاب أصوات الدول الصغيرة والمتوسطة من قبل الكبار، بالمشاريع الاقتصادية والترتيبات الأمنية، لم يعُد فعَّالاً إعلاميّا. حتى مارشال أوروبا، وهو النُسخة الأصلية، لم يتحقق خارجها إلَّا مرَّات قلائل بحسب نسيم طالب في كتابه “البجعة السوداء”.العالم يتجه نحو ترتيبات عائمة، تستطيع تلبية المزيد للدول التي تندرج في الفئات الصغيرة والمتوسطة، دون أي ضريبة أيديولوجية على المدييْن القصير والمتوسط. لذا نتمنى على الرئيس بايدن أن يفهم بأن قبعة دعمه التي ألقاها في تل أبيب ليست من ماركة نابليون، بل جوزفين!