احمد سعداوي
هناك مزاج عام في الثقافة العراقية وربما العربية، ترسّخ في العقد الاخير، يقف بالضد من الشعر، بأشكاله المتنوعة المعروفة، ويتبرم من كثرة المشتغلين في حقله. ويُنظر عادة إلى هذا المزاج على أنه جزء من الحالة الثقافية الصحية، فنحن لا نكتب الشعر كفعالية ثقافية أساسية، وإنما نفكر أيضاً بعقل شعري، ليس بالمعنى العميق للفعالية الشعرية، وإنما بمظاهر الفعالية الشعرية، خاصة المظاهر المتسيدة منها، كالخطابية والتزويق والترصيع والتجميل، وسيادة البلاغة وحس الصناعة، وأيضاً الآثار الناتجة عن ذلك من العقد المبرم بين الشاعر وجمهوره، الذي يضمن تسويق البضاعة الشعرية.
الشاعر هنا يعطي ما يتوقع الجمهور منه أن يعطيه، فلا يحرّك المستقر في قناعاتهم، ولا يمارس وظيفة نقد”ثقافي” عميقة، إلا ما يتبناه الشاعر من توجهات نقدية عامة، سياسية على الأغلب، تتناغم مع الحالة العامة.
صار الشعر، ان كان بشكله الخطابي التقليدي، أو الحداثي، منطقة كسل ثقافي وفتور معرفي للتعرف على العالم والاندراج في القضايا العميقة التي تخص وعياً متقدماً في جو ظلامي يرتد بسرعة إلى الخلف بسبب تسيد الأصوليات الدينية والسياسية.
كل هذا أمر مفهوم، خاصة ان الاجيال الشابة، التي تمثل النسبة السكانية الأكبر، في العراق وعديد البلدان العربية، تعيش، بحكم العمر والتجربة، في “الزمن العاطفي” على حد تعبير كونديرا، وهو زمن تفتح الدوافع والحاجات الخطابية والغنائية إلى أعلى مستوياتها، ومن الطبيعي أن يندفع من هو في هذا العمر إلى المواد الثقافية التي تلبي حاجاته الخطابية والغنائية. ولكن هذه الحاجة تلبيها مواد متنوعة المستويات. الغنائية والخطابية نجدها في الشعر الشعبي الساذج جداً، في شعر شعبي آخر عالي الجودة، في أنماط متعددة من الشعر الفصيح، ونرتقي، خارج الشعر، لنصل إلى السيمفونيات، والأوبرا والموسيقى الحديثة، والسينما والدراما وحتى الفنون التشكيلية وأشكال أخرى متعددة من الفنون.
واذ تتراجع الخطابية والغنائية مع تقدم العمر ونضج العقل التحليلي فانها لا تختفي تماماً وتبقى نابضة، ويبقى الفن بكل أشكاله يلبي هذه الحاجات، بأشكال متنوعة ومتعددة
استخدم غالباً تعبيراً أثيراً عندي في وصف ما أراه تصوراً لهذه المشكلة التي تأخذ الكثير من
الاهتمام في النقاشات بين المثقفين ” المزاحمة وليس الازاحة”
بمعنى أن هذا الاستهلاك الواسع للفنون الخطابية والغنائية، ومنها الشعر بأشكاله السطحية غالباً، واندفاع المواهب الشابة الجديدة نحو الشعر وليس نحو مجالات فنية وكتابية أخرى مجاورة، هو أمر طبيعي ومفهوم، وجزء من المواهب التي تندفع إلى الشعر تمر بمرحلة تمرين كتابي وعاطفي ومعرفي، ثم سرعان ما يقوى عودها لتنتقل إلى مجالات كتابية أكثر تحدياً بالنسبة لها، بينما تنتقل المواهب الأخرى الى “مستوى أعلى” من التحدي الشعري، لتغدو مواهب شعرية أكثر نضجاً. بالنسبة لي أرى ان الوضع الصحي لأي ثقافة انها متنوعة، وفي الثقافات الحية يتم الحرص على هذا التنوع، وضخ برامج تساعد على التنوع. وفي واقعنا العربي، والعراقي تحديداً، لا يوجد ما يشجع الطاقات الشابة المهتمة بالجماليات. سوى المناخ العام الذي يعزز من حضور الشعر انتاجاً واستهلاكاً لا يوجد لدينا معهد لتعليم الكتابة الابداعية مثل معهد “تيد هيوز” البريطاني مثلاً، ولا البرامج الكثيرة الشائعة لكتابة الرواية وقراءتها وتدريسها كما في الولايات المتحدة وبلدان عديدة حول العالم. ولا ورش للسينما وتعليم السيناريو. لا يوجد لدينا مسرح، وقاعات عرض، او ورش مسرحية. لا يوجد في الحقيقة “بنية تحتية” تعزز حضور الثقافة المتنوعة واستهلاكها داخل المجتمع. لذلك من الطبيعي ان يكون المنتج الجمالي الأكثر استهلاكاً هو الشعر
وهذه ليست مشكلة الشعر، فنحن لا “نزاحمه” بشيء آخر. أما رغبتنا بـ”إزاحته” فهي رغبة ظالمة بكل تأكيد.