الدكتور
عبدالقادر القيسي
وعلى المسلم ان لا يلتفت لبعض الموتورين سيء النية؛ الذين يجعلون من اللجوء ربيع دائم وخضرة عامرة ويرسمون للمستقبل افاق تكاد تكون نرجسية وكما فعلوا بي، واني اضع في ميدان رؤية أي شخص يفكر باللجوء جملة أمور عليه التوقف عندها وتأملها ودراسة اثارها قبل التفكير باللجوء، وأود ان انوه ان عنوان مقالتي لا يشمل اخوة عرب وعراقيين ومن جنسيات أخرى شاهدتهم محافظين على دينهم وعوائلهم بطريقة محل فخر(لان ذلك استثناء وانا اتحدث عن قاعدة)، خصوصا الجالية الهندية والباكستانية والصومالية حيث كانوا غالبيتهم محافظين على تقاليد مجتمعاتهم متكاتفين ومتعاضدين وفعلا قاموا بنشر الدين الإسلامي وصنعوا لأولادهم وبناتهم مناطق بأكملها تعج بجنسياتهم وتحيا حياتهم بعيدا عن صخب الغرب، وكانوا يشترون الكنائس بأسعار عالية جدا ويقيمون فيها الجوامع وفي مدينة بولتن فقط هناك اكثر من خمسين جامع ومسجد، فانا احيهم، وعودا على بدأ، ادونها في ادناه:
أولا: ان مسيرتك من دخولك البلد الذي تنوي الإقامة فيه والى حين منحك الإقامة المؤقتة او الدائمة فيها من الماسي والصعوبات ما يجعل امر تحملها شاق جدا خصوصا للرجل الخمسيني، حيث التنقل المستمر من مكان الى مكان، وسكنك مع اشخاص من عدة جنسيات لا تعرف لهم الية تجمع بها تصرفاتهم وسلوكياتهم؛ ولكل واحد منهم عاداته وتقاليده التي لا تتوافق معك في غالب الأحيان، والكل سواسية، فانته تتساوى مع الجاهل والساذج والمريض والسارق والقاتل وووووووو من كافة الجنسيات، ولا مكان للشهادة وكبر السن والمكانة الاجتماعية والمنصب والوجاهة في اليات اللجوء، لأنك تصبح انسان ألي تعيش على المساعدات (لا تعرف مصادرها هل هي من صالات القمار او المشروبات او مزارع الخنازير وغيرها أي ان مصادرها غالبا غير شرعي) وتأكل وتنام مجانا وعليك السكوت والالتزام بالقوانين وتصبح متسكع درجة أولى في الشوارع والمولات والحدائق وغيرها؛ لان يومك الوقت فيه مفتوح وبدون عمل، أي انته صفر على الشمال خاصة اذا كنت صاحب شهادة عليا ودفعتك الظروف الأمنية والتهديدات للهجرة فان ذلك مكلفا عليك جدا جدا جدا لأنك تصبح بلا شهادة ومركزك الاعتباري في ادنى مستوياته والله المعين( وهذا ما عانيته بالذات في رحلة اللجوء الى بريطانيا؛ مما دعاني لرفض اللجوء وطلب العودة الطوعية الى بلدي، مما اثار استغراب وزارة الداخلية والمحامي الإنكليزي وكيلي لما قدمته من وثائق وادلة ووقائع ومستمسكات ثبوتية دامغة، تمكني من منحي اللجوء السياسي بيسر، وطلبوا مني التريث والبقاء لحين حسم قضيتي وبإلحاح كبير، واخذت موظفة الهجرة تحذرني من قرار العودة واخذت تقرأ علي مقتطفات من تقارير الأمم المتحدة حول خطورة الوضع في العراق وخطر داعش والمليشيات التي تقتل على الهوية، وكررت علي نفس المحاذير في يوم سفري من مطار هيثرو في لندن وأكدت، باني لي حق رفض العودة الطوعية والبقاء في بريطانيا لان الوضع في العراق خطر جدا على حياتك ولا يمكنك العودة، لكني والله والله والله كان عنوان العراق وكرامتي واهلي مرأة امام عيني، اسقطت كافة المغريات ولم التفت اليها وقررت العودة، مع العلم ان اللجوء في بريطانيا مفضل جدا جدا ويدفع من اجل الوصول اليها الاف الدولارات والمهاجرين يمرون برحلة شاقة جدا جدا وقد يموتون في سبيل الوصول الى بريطانيا، وبعد عودتي الى بلدي والفرح مرتسم على محياي وتحديدا بعشرة أيام اتصل بي المحامي الإنكليزي، يبلغني بمنحي اللجوء السياسي الدائمي وهو صعب المنال جدا، واخذ يلومني بسبب قرار العودة وابلغني باني استطيع التمتع باللجوء السياسي في حالة عودتي لبريطانيا ورفضت أيضا لأني عشت طيلة سنة كاملة في رحلتي لطلب اللجوء عانيت فيها ما عانيت من اسى والم وحزن وكنت قاب قوسين او ادنى ان اكون في أجواء او أماكن لا تليق بي، لكن لطف الله منع ذلك ولو حصل لم يكن بيدي شيء افعله لدرء ذلك).
ثانيا: هناك صعوبة بالغة في التواصل مع ما يصلك من بريد بسبب اللغة من الجهات المعنية باللجوء، وهنا تبدأ معاناتك مع إيجاد شخص يفهم اللغة ويترجم لك وقد تحتاجه في الذهاب معك للجهة المخاطبة لك وهذه مشكلة لان اغلب الأشخاص الذين لديهم لغة وخصوصا العرب ومنهم بالذات غالبية العراقيين تجدهم تجمعهم المذهبية والمصلحة ولا يجتمعوا الا كلن على مذهبه وان اجتمعوا تأتي المصالح والمنافع لتأخذ دورها بفعالية منقطعة النظير وهي العنوان الكبير للعلاقات مع الأسف الشديد بالنتيجة تجد نفسك تائه في اغلب الأحيان وقد تفوتك جملة أمور مهمة تعجل في منحك الإقامة بسبب عدم فهم مضمون البريد الواصل لك.
ثالثا: اللاجئ الذي يصطحب عائلته او سيصطحبهم عليه ان يعرف ان أولاده قد خرجوا عن سيطرته شاء اما ابى لانهم من حين دخولهم لذلك البلد يصبحون من حصة الدولة الغربية وتبدأ المحنة هنا بالذات؛ لان اخلاقهم ستصبح بعيدة عن الإسلام وقيم الشرف التي يعيشها مجتمعنا الإسلامي وسيقول قائل ان هناك عوائل استمرت محافظة على أبنائهم وبناتهم ولم يتأثروا بالغرب أقول له صحيح هذا لكن هذا الامر استثناء والقاعدة انهم سينحرفون بطريقة وبأخرى ويصبح الاب والام مجرد أصدقاء لهم، ولهم الخيار ان يمتثلوا لأمرهم او لا وخصوصا اذا بلغوا سن الرشد فيصبح حر في جميع اختياراته وتطلعاته وتصرفاته ويصبح الوالدين متفرجين على كيفية ضياع أولادهم وبناتهم في ظل الأجواء التي يعيشها المجتمع الغربي من انهيار أخلاقي ولبس فاحش يجعل كبير السن قد ينحرف فكيف بالشاب والمراهق، وحتى الزوجة اذا ارادت ان تنحرف فلها مطلق الحرية وليس لزوجها أي سلطة عليها، وتبقى فقط التربية البيتية ولطف الله.
وشاهدت زوج فقد أولاده وزوجته الذين اتى بهم من العراق الى بريطانيا (في رحلة خطرة جدا جدا) نتيجة طلبها الطلاق منه وذهابها في أحضان رجل أجنبي وبقي هو في موقف المتفرج، وبدأ بمراجعة الأطباء النفسيين وتناول المهدئات وهذا حال غالبية الشعوب الغربية التي تتناول المهدئات بكثرة لأنها تعيش أزمات نفسية مستمرة للتفكك الاسري وفقدان البنية التحتية لمقومات الاسرة.
ان المجتمعات الغربية تمتلك مهارة فائقة بجعل الرجل (ديوث) بامتياز، انها والله مأساة كبيرة وقد شاهدت عدة حالات منها (أبناء يسجنون ابائهم كونه قد ارتفع صوته عليهم وهددهم وأبناء يشتكون على ابائهم لدى المعلمة لان اباهم يتحدث بالهاتف بعد الساعة التاسعة ليلا واخرين اشتكوا على والدهم لأنه يصلي صلاة التهجد ويبقي النور متوهج ليقرا القران، وبنات في سن المراهقة وشابات في طريقهن للانحراف او انحرفن ولا يستطيع الاب او الام او الأخ الكبير منع ذلك لأنه ان فعل قصرا فالقانون ينتظره وسيودع بالسجن. والشواهد عديدة ومؤلمة وكارثية تجعلنا نتوقف كثيرا لأننا كلنا راع وكلنا مسؤولين عن رعيتنا وسنحاسب على ذلك يوم القيامة لأننا كنا السبب في ضياع أولادنا وضياع دينهم لا لشيء لأجل ان نعيش حياة مادية بمورد دائم وحرية عصرية لكنها بلا معنى وبلا طعم ومليئة بالاسى والحزن، والله والله والله لم القى عائلة عربية مقيمة في بريطانيا او بلاد أخرى وعلى جبينها مسحة فرح بل كنت أرى الحزن عميق وغائر جدا ويعلوا وجوههم، وعندما ادخل بيوتهم اجدها مثل الكهوف؛ لان الانارة ضعيفة جدا وباردة بسبب عدم وجود تدفئة كافية فيها والرطوبة والروائح العفنة لا تغادرها بسبب رطوبة الموكيت؛ كل ذلك بسبب الضرائب وارتفاع الغاز واجور الكهرباء بسبب ضالة المساعدات الممنوحة للاجئ، واللاجئ مهما كانت شهادته فان عمله لا يتعدى عامل في المطاعن او المصانع وغيرها أي لا يتعدى صفة العامل الا اذا درس وتخرج من الجامعات الغربية وهذا مكلف وصعب وبالغ الصعوبة لحملة الشهادات العليا، وعليك ان تعيش عمرك كله بهذه الشكلية، كل ذلك يتحمله اللاجئ لأجل ان يدرس أولاده دراسة جيدة وان يتعلم لغة وبعدها يمنح الجنسية اللعينة التي ضيعت العوائل والشباب لأجل التمتع ببريق هذه الجنسية (التي لا تمنح لللاجئ الا بعد تأدية القسم بالولاء للملكة والدولة الأجنبية)، لاشك أنه شعور جميل، لكنه أقرب إلى الكذب على النفس وتعليلها بالآمال الزائفة منه إلى الحقيقة، فكم من المغتربين قضوا نحبهم في بلاد الغربة وهم يرنون للعودة إلى قراهم وبلداتهم القديمة! وكم منهم ظل يؤجل العودة إلى مسقط الرأس حتى غزا الشيب رأسه دون أن يعود في النهاية، ودون أن يستمتع بحياة الاغتراب! وكم منهم قاسى وعانى الأمرّين، وحرم نفسه من ملذات الحياة خارج الوطن كي يوفر الدولارات التي جمعها ليتمتع بها بعد العودة إلى دياره، ثم طالت به الغربة، وانقضت السنون، وهو مستمر في تقتيره ومعاناته وانتظاره، على أمل التمتع مستقبلاً في ربوع الوطن.
وكم من المغتربين عادوا فعلاً بعد طول غياب، لكن لا ليستمتعوا بما جنوه من أرزاق في ديار الغربة، بل لينتقلوا إلى رحمة ربهم بعد عودتهم إلى بلادهم بقليل، وكأن الموت كان ذلك المستقبل الذي كانوا يرنون إليه! لقد رهنوا القسم الأكبر من حياتهم لمستقبل ربما يأتي، وربما لا يأتي أبداً، وهو الاحتمال الأرجح!
هذا جزء بسيط من ما يعانيه اللاجئ وهناك أمور كثيرة لا يسع المجال لإتيان مجملها لأنها تحتاج الى دراسة متعددة الصفحات واني اردت فقط ان اركز على النقاط الرئيسية.
وتأكيدا، في كل العالم نجد الشعوب ومكوناتها من جماعات وأحزاب وفصائل وقوميات وملل وأديان تختلف حول أشياء كثيرة في السياسة العامة للدولة التي تعيش على أرضها، وتجد من يؤيد الحرب ومن لا يؤيدها، وتجد من يؤيد الخطة الاقتصادية وتجد من يرفضها، وتجد من يؤيد الحكومة ومن ينادي برحيلها، ولكنك لا تجد أحدا ضد الوطن نفسه، فالكل يفتخر بوطنيته وانتمائه ويرفض أي شيء يضر بالأمن القومي لبلاده، والكل يقف صفا واحدا في وجه أعداء الوطن ويصد أية محاولات، تسعى للإضرار به.
يجب ان يعرف البعض ان الذي يتنازل عن وطنه من أجل لقمة أفضل لن تكون له كرامة في أي أرض (الي يطلع من داره يقل مقداره) ولن يكون له انتماء لأي أرض أخرى، لأن اللقمة دون غيرها هي وطنه وهي الدافع الذي يجعله يرحل أو يبقى، أما الوطنية والتشبث بالأرض بمعانيها الجميلة فلا مكان لها عنده.
الذي يحب وطنه يقف إلى جواره ويبنيه لا أن يتركه ويرحل وإن رحل يوما من أجل العمل لابد أن يعود بما جمعه من مال لينهض بنفسه وأهله وبلده.
العراق وعاصمة السلام بغداد التي وهبتنا طيبتنا، وهبتنا جمال أرواحنا، وهبتنا أنْ نحب ونعشق ونموت في الولع كما لو أننا مجانين.
تناسوا كلَّ شيء واذكروا اسم العراق، اذكروا زعيمكم الحقيقي، الزعيم الذي لا يختلفون عليه وفيه، ذلك هو علم العراق، علم طفولتنا وشبابنا وشيخوختنا، العلم الذي نحبه كما نحب الأرض وكما نحب الشمس، وكما نحب النخل، وكم نحب دجلة والفرات.
ولنا معكم موعد في الجزء الثالث من مقالتنا .