بغداد/شبكة اخبار العراق- من الصعوبة أن يتخلص الخطاب الثقافي من رهابات السياسي أو الأيديولوجي، إذ يظل السياسي يصطنع الكثير من الفخاخ، والتخويف والتخوين، وهو مايعني قطع الطريق على أية قراءة ضدية أو مفارقة، وهو ضمنا يرسم طريقا واحداً للقراءة بعيدا عن التأويل والتسعير..
تاريخ القراءات المتقاطعة أوحتى القراءات الخائفة يعكس في جوهره تاريخ العلاقة مابين السلطة والجمهور، أو مابين الصاحب والمريد..ولعل أخطر من وقع ضحية لهذا التاريخ العصابي هم الشعراء، فهم أبناء النقائض والاستعارات، مثلما هم أبناء السلالات غير المنضبطة، لذلك تساكنهم أفكار التمرد والإحتجاج والخروج والتجاوز، وتبيح لهم اللغة رؤيا ما لايراه العابر والنائم والعاطل والثوري
والفقيه..
سعيد عقل عاش مئة سنة عربية!! بكل مايحمله هذا العيش من معنى واغتراب وأوهام، لذلك كان واحدا من أكثر شعرائنا العرب اصطناعا للمفارقات، فهو القومي والثوري والمسيحي والطائفي والتاريخي، وهو أيضا الحكواتي، والعصابي
والشعوبي..
الكثيرون اختلفوا في الموقف حول سعيد عقل، في رؤيته للعالم، والشعر، واللغة، والدين والجسد..لكنهم (قد) يتفقون وعلى شيء من الريبة والاضطرار بأن سعيد عقل هو زمن شعري وثقافي مهم في لبنان، وفي تجربتها الثقافية الخاصة، إذ من اللاموضوعية أن نعمم ماهو غير ثقافي على تجربة سعيد عقل، وأن نسبغ الأحكام النقدية الوصفية ذات المرجع العروبي والتاريخي الخالص على هذه التجربة، وحتى محاكمتها بنوع من القسوة المفرطة، وتحت يافطات ايديولوجية خالصة.
سعيد عقل عالم شعري خاص، وتجربة ينبغي ان تقرأ في سياق خصوصيتها، وفي ما هو مضمر فيها، وبالطريقة التي تجعل القراءة نوعا من المقاربة النقد ثقافية لمحمولات تلك التجربة، ولخصوصية التنافر في ما تحمله من كتابات شعرية ضاجة بالمفارقة، وحتى لكل ما يتبدى فيها من تقانات استعملها بمزاج شعري وتعبيري، بما فيها نزعته لاستخدام اللهجة المحكية في القصيدة اللبنانية، وحتى الإعلان عن بعض الأفكار التي تبناها وعبّر عنها، تلك التي اشتبك فيها الهاجس الماروني المسيحي مع القومي السوري، والآرامي اللغوي، مع الفينيقي
المكان..
كل هذا يخص فعل القراءة، أي فعل استدعاء نص سعيد عقل الذي مات قبل أيام، وعاش أكثر من قرن، فهو شاهد على تلك اللحظات الفارقة في حياتنا الثقافية العربية المحشوة بالحروب والاوهام والصراعات والاحتلالات والعصابيات..
الشعر عند سعيد عقل يقوم على تقانة إبراز النسيج الجمالي، إذ هو القماشة التعبيرية التي تصنع اللذة، وتتيح للشاعر أكبر قدر من استعادة المعنى والفكرة عبر اللغة، وعبر تأمل وجوده وجسده، وتأمل مايحيطه من الطبيعة والسحر الذي تصنعه تلك اللغة، اللغة اللابلاغية، حيث اليومي المحشو بالتقاطات الشاعر لماهو مثير ومفارق في بيئة ارستقراطية، ومسكونة بما هو تعبيري إنيق بنزعته الغنائية، حيث يأخذ من “ماعون” البيت كما يسميها ابن
الرومي..
ارتبطت تجربة سعيد عقل مع أهم التجارب الشعرية والثقافية وحتى السياسية العربية، بدءا من أثر شعر المهجر، ولحظة (السفرلك) العصملية في الذاكرة اللبنانية والشامية، فضلا عن ارتباطها بتجربة القصيدة (الرسولية) بتدفقها الرومانسي، ومثلها الشعراء رشيد معلوف ونسيب عريضة والاخطل الصغير وغيرهم، مرورا بالتجربة الرائدة لشعراء مجلات “شعر” و”الأديب” و”حوار” و”الآداب”..التي شكلت أهم الصدمات المعرفية الثقافية واللغوية في الشعر العربي الحديث..
شهادة سعيد عقل ليست بالضرورة موقفا معاديا لماهو سائد في يوميات الثقافة العربية المحاربة والمعبأة ضد الصهيونية والامبريالية كما يصفها البعض، بقدر ماهي تعبير خاص عن شهادة الرائي، وشهادة المثقف والحالم وصورة الفتى الأنيق، وصورة الشاعر الرومانسي الذي يؤمن بغنائية القصيدة وفرجتها، وانها لاتختلف كثيرا عن عرض الأشياء أو الدخول الى
غابة..
وأحسب أن علاقته بفيروز والرحابنة كانت تأكيدا لهذا النزوع الخاص في شعرية سعيد عقل المفتوحة والمتقلبة منذ قرن كامل، وظلت مثار جدل ومفارقة واسعين، وحتى مواقفه الحادة إزاء المقاومة الفلسطينية لم تكن إلاّ تعبيرا عن تشوشه الثقافي إزاء ماكان يحدث في الواقع العربي منذ الحرب اللبنانية 1975 والغزو الإسرائيلي لبيروت العام 1982 وخروج المقاومة الفلسطينية إلى المهاجر مرة أخرى من بيروت، ولعل مايشفع لرؤية مواقف سعيد عقل الواضحة لما جرى، ولما كان يجري قصيدته المذهلة (زهرة المدائن) عن القدس، التي غنتها فيروز، لتظل أكثر شهادات الشعر العربي حضورا وتميزا في ذاكرتنا.