بغداد/شبكة اخبار العراق- لايملك الفنان التشكيلي إلاّ أن يرى العالم مصبوغا بالألوان، وأن يكون اللون هو المقترح البصري لممارسة الاكتشاف، مثلما هو المجس الذي يلامس به الوجود والوجوه واليوميات والتفاصيل، وأن تتحول استعاراته اللونية والخطّية إلى بنى وتكوينات تفضي إلى مايشبه سيمياء التعرية أو اللذة أو الصدمة..
اغتراب وجودي
لوحات الفنان العراقي المغترب ستار نعمة في معرضه الشخصي ( الجسد فطرة التعبير) على قاعة “ألق للفنون والعمارة” تأخذنا إلى حيث اشتباك تلك الألوان بالأفكار، وإلى حيث أن يكون الجسد بوصفه البصري، هو المجال التكويني الذي تتشكل به فضاءات هذا الاشتباك، فالوجوه الغائمة والأعضاء المتدلية والمبتورة توحي عبر خطوطها الغرائبية إلى الاغتراب الوجودي، مثلما توحي بصدمة تشظي الكائن، وبحثه الدائب عن الحرية والخــلاص، وعــن المعنى..العتبة العنوانية المسكونة للمعرض، تمثل دالة الجسد، وتفتح للعين المشاهدة حدسا لرؤية ماهو خبيء تحت كتل الألوان، واشتباك الخطوط من إيحاءات، باتجاه تجاوز السطوح الخشنة، إلى استدعاء شفرة الجسد الناعم الأنثوي بشكل خاص، بكل مايستدعيه من إثارة وفقد، ومن دفق بصري يسعى إلى لذة الاكتشاف، وإلى إبراز فاعلية التحويل والتأويل في حمولات الجسد، فضلا عما تستدعيه نزعة الفنان التعبيرية لتوسيع مساحات التجريد، كمحاولة للتخلص من فكرة الطبيعة، والانغمار في تقانات التشكيل، والتكوين، وإحالة المديات البصرية في المدينة/ محور اللوحات إلى أفكار، وإلى صراعات، وإلى مستويات تعبيرية دالة، وذلك من خلال استثمار أقصى طاقات الخامات اللونية، وباتجاه أن تكون هذه المستويات غامرة بوجوه شائهة، ومرتابة، بأجساد مقطعة، أو ملتصقة مع بعضها البعض، وكأنها تهجس بنداء عميق للحرية، بوصفه التعويض الإيهامي عن الغياب والمحو والقمع، والرغبة في الإنشداد الى الحلـم..
مقاربة لرسومات الصوفيين
لوحات المعرض الـ (24) حملت عناوين تجريدية باستثناء لوحتي
(الدرويشة العارية) و(المستلقون)، إذ ظلت الصفة التنكيرية للأسماء تعبيرا عن نزوع ستار نعمة للتمرد على الفكرة الواقعية، أو حتى على “نوستالجيا” التفاصيل، وهذا المنحى يجد مقاربته التعبيرية الجمالية عبر معطيات الكثافة اللونية في اللوحات، حدّ انها تحيل إلى نماذج من رسومات الصوفيين.
وهم يدفعون النص التشكيلي اللوني إلى التأويل، وإلى ما يمكن أن يجعل القراءة البصرية متواترة ومستنفرَة، تلك التي تدفع إلى استكناه ما يمكن أن يحمله العديد من اللوحات من أفكار وهواجس، وما يمكن أن تثيره أيضا من دهشة ومن غرائبية مستفزة للعين العراقيــة، تلك التي تبدو متدفقة عبر شراهة توزيعهــا اللوني، أو حتى عبر سيولة خطوطها، التي توازي دلاليا الرغبة المتخيلة في أن يكون التكوين التشكيلي هو قناع الرائي والسارد الذاتي، وهو الباحث عبر عينه اللونية عن دلالات ذهنيـة، أو عن حركات تستنفز أفقه البصري، أو مايمكن أن يتشكل في وعيه الظاهراتي، ذلك الذي يستدعي عبره الوجود بوصفه الفلسفي أو اللوني، الذي يضخه الرسام بإيقاعات صاخبة، هي ذاتها إيقاعات وعيه (الشقي) الصاخب والمتسائل…
طبيعة قلقة
لوحات ستار نعمة محتشدة بالكثير من استعارات اللغة التعبيرية عبر وجوه الشخصيات الغائمة، وعبر ماتوحي به أجسادهم المتشظية والغامرة، إذ تمثل هذه اللغة تقصيا صوفيا للكشف عن ما في دواخلهم من اغتراب، ومن قلق، حيث تغيب الملامح وتحضر الخطوط، يمثل فيها الكائن/ الشخصية عبر ثنائيتي الانوثة والذكورة شفرة البحث عن الحب والامتلاء والأنسنة المغيبة أو المقموعة، تلك التي يكون محور حساسيتها الجسد، بوصفه الرمز النافر لسيمياء القوة والضحية، والعري، والكينونة.
التقانة التعبيرية في اللوحات تنوعت بين استخدام الكولاج، وفن التركيب البيني (الانستليشن) والاكليريك، وبين التشكيل اللوني الذي يستعين بفاعلية الخطوط، مما أسبغ على سطوح اللوحات ملامح ناتئة، تتزاوج فيها القسوة والدهشة مع التأمل، وهذا الاستغراق في مثل هذه الإيحائية، يمثل وعيا لطبيعة قلقة كمهاجر منتزع الجذور، وباحث في معنى وجوده، فضلا عن مايمثل كوعي حاد لأسئلة الحداثة، ولهاجس الاغتراب الذي يحمله، إذ انعكس هذا الاشتغال على خياراته لألوان محددة، وعلى حركة فرشاته، وعلى استدعائه لبعض ملامح الصوفية، لتمثل جوانية كائنه الذي يشبهه، المشتبك والغائر والغائم، والباحث عن الحرية والاكتمال.