ظاهرة الانكماش والتراجع في بحرنا الإقليمي
بلد يتقدم إلى الوراء
يقولون: خير الكلام ما قل ودل, بيد أن كلامنا هذه المرة على قلته ستكون له دلالات كثيرة, وإشارات مثيرة, تجمع بين ماضينا الملاحي المبهر, وحاضره المتعثر, ومستقبله المغبر, فعلى الرغم من اختزالنا لكلامنا في صفحتين أو ثلاث صفحات, إلا إننا سنكتشف بعد الكلام المفيد إننا تطرقنا إلى أخطر الهفوات, التي ارتكبناها بسبب جهلنا, أو بسبب إهمالنا, أو بسبب حماقاتنا المتكررة, والتي لم يتطرق إليها أحد من قبل, فوجدنا إن واجبنا الوطني يحتم علينا التذكير بقفزاتنا المتراجعة في مياهنا الإقليمية, عسى أن تلتفت الجهات المعنية إلى الفراغ البحري في المساحات المتروكة خلفنا فتملئه بحكمتها, وتسارع برأيها السديد إلى تصحيح مواقعنا البحرية المفككة
كاظم فنجان الحمامي
كل الشعوب والأمم تتقدم إلى الأمام في مسطحاتها المائية, وكلها تتوسع في مياهها البحرية إلا نحن, فقد امتهنا التقهقر, واعتدنا على الانكماش نحو ممراتنا الملاحية الضيقة, وتراجعنا إلى سواحلنا الضحلة المنزوية في الأخاديد الكئيبة المختبئة خلف أخوار جزيرة وربة. كان الخليج كله يدعى خليج الفرات, ثم صار اسمه خليج البصرة, وكان العراق سيداً مهاباً يبسط نفوذه على مسطحاته البحرية الممتدة من رأس البيشة عند مصب شط العرب إلى رأس مسندم في مضيق هرمز. وكان الأرخبيل الطبيعي المحمي من الأمواج والرياح في جزيرة (خارك) هو المكان الذي تتجمع فيه السفن التجارية المتوجهة إلى موانئ البصرة, فهذه الجزيرة الواقعة شرق الخليج العربي, والتي لا تبعد كثيرا عن ميناء بوشهر الإيراني, كانت حتى عام 1920 بمثابة محطة الإرشاد العراقية المخصصة لانتظار السفن, ولا يحق لأي سفينة التحرك من هناك إلا بعد اصطحابها أحد المرشدين البحريين العراقيين, ليدلها على الطريق الآمن, ويمثل في الوقت نفسه سيادتنا الملاحية على مياهنا الإقليمية, كما لا يحق للسفن التجارية مغادرة البصرة إلا بعد اصطحابها المرشد العراقي المكلف بإرشادها من العراق إلى جزيرة (خارك), لتستأنف رحلتها من هناك نحو بحار الله الواسعة خارج محددات السيادة البحرية العراقية. ثم انتقلت محطة الإرشاد عدة انتقالات على مراحل متباعدة, اختزلت فيها المسافة نحو مدخل شط العرب, حتى استقرت في ستينيات القرن الماضي إلى الشرق من الميناء النفطي العميق (خور العُميَّة) بمسافة لا تقل عن ثلاثة أميال بحرية, وظلت متمسكة بمكانها هذا حتى اندلاع الحرب في الشهر التاسع من عام 1980. فتوقفت الأنشطة المينائية كلها, وتعطلت الملاحة في شط العرب وخور عبد الله لأكثر من ثماني أعوام, انتقلت بعدها محطة الإرشاد ومحطة انتظار السفن إلى مكان آخر يبعد عن منصات ميناء البصرة النفطي في خور الخفقة مسافة أربعة أميال بحرية بالاتجاه الشمالي الغربي, فزحفنا كثيرا إلى الوراء, واقتربنا من مدخل خور عبد الله من جهة البحر, بمعنى إننا تراجعنا إلى الداخل عام 1989, وتقهقرنا إلى الخلف من دون أن يضغط علينا أحد, ومن دون أن تكون لدينا أي مبررات ملاحية أو تجارية أو إستراتيجية, فكل القصة وما فيها إن خبرائنا في تلك الحقبة حبذوا الانسحاب مسافة سبعة أميال بحرية نحو الداخل. ثم تراجعنا مرة أخرى إلى الوراء بعد عام 1992 فانكمشنا إلى الداخل بموجب التحديدات, التي رسمتها قوات التحالف عند مدخل خور عبد الله ومدخل شط العرب, والتي كانت تشير إلى حقلين وهميين من حقول الألغام البحرية, فانتقلت محطة الإرشاد ومحطة الانتظار من مكانها المتراجع, وزحفت باتجاه مدخل خور عبد الله مسافة تقدر بثلاثة أميال بحرية أخرى إلى الخلف, حتى صارت قريبة جدا من العوامة الملاحية رقم (1). ثم تراجعنا مرة أخرى إلى الوراء بعد عام 2003, فتقهقرنا إلى الخلف من دون أي مسوغ بحري, ومن دون أي مبرر ملاحي, وتنازلنا عن حقوقنا الطبيعية, التي لم يزاحمنا عليها أحد, فتمركزت محطة الإرشاد البحري ومحطة انتظار السفن بين العوامتين (3) و(5) من خور عبد الله, ما يعني إننا زحفنا نحو الخلف في مياهنا الإقليمية قرابة (15) ميلاً بحرياً في غضون (23) سنة, تراجعنا فيها إلى الوراء من دون أن يزاحمنا أحد, ومن دون أن يضايقنا أحد. هكذا وبكل بساطة استسهلنا الأمر, فامتهنا الانكماش, وتعودنا على التقوقع, واختزلنا المسافات, وقلصنا المساحات, وصار التقهقر من هواياتنا المفضلة, في الوقت الذي تمددت فيه الحدود الكويتية والإيرانية في الفضاءات البحرية المفتوحة بالطول والعرض. وهذا هو الملخص المؤلم لصفحة مخفية من صفحات تفريطنا بحقوقنا, وتنازلنا عنها بمحض إرادتنا للفترة من 1980 إلى 2003, بانتظار أن يفزع لنا شهم غيور, فيعيد إلينا هيبتنا البحرية المفقودة منذ عام 1980 .