من على سطوح كربلاء كنا نسمع صوت الله ، في الفجر، والظهر، والعشية، ما خلا ذلك كان الصمت مُطبقاً، لا يخدشه سوى مواء القطط، وهي تتقافز من على شرفات المنازل المتجاورة، الملتسقة بعضها ببعض , لم تكن نتف الأخبار المُفلترة، التي تنقل لنا ما يريحنا، أو يبعث فينا الإطمئنان، تطفيء عطشنا لمعرفة ما يجري، ما الذي ينقذنا من الفلترة ؟
راديو الترانسستور.. الروسي، لأنه قادر على التغلب على التشويش، وهو رخيص الثمن ، لكنه غير أنيق، وثقيل الحمل، هذا ما إقترحه رفيقي , جمعنا كل ما لدينا من نقود، وأرسلنا من يشتري لنا هذا الراديو، وكان أن أصبح بيننا نحن الإثنين (صوت متعدد النبرات). طفقنا نسمع موسكو، ولندن، والقاهرة ، والأهم ( صوت الشعب العراقي) , بفضل راديو الترانسستور أصبحت الصورة جليه، وبتنا على يقين أن البقاء فوق سطوح المدينة الحزينة لا يعني سوى الموت .
آخر مرّة تصافح عيوننا القباب والمنائر الذهبية كان فجر الحادي والعشرين من آذار عام 1993، لماذا ظل هذا اليوم، وهذا الفجر تحديداً عالقاً في الذاكرة؟ , كتبت على ظهر صورة أمي التي ظلت معي حتى أضعتها وأنا أهرب من جنود الشاه وهم يطاردون متظاهري إنتفاضة محرم في ( خيابون شاه) ، وكنت عابر سبيل ليس إلا ، كتبت ( فجر اليوم 21 آذار ألقينا آخر نظرة على سطوح كربلاء ).
راديو الترانسستور الروسي هو الذي دفعنا لوضع خطط الهروب، لا من مدينة كربلاء، وإنما من الوطن كله , حملنا الراديو الروسي معنا، هو ثروتنا ، ولعله الشيء الوحيد الذي كنا نحمله ، فلا حقائب، ولا ملابس ولا حاجيات. الساعة في المعصم، والقلم في الجيب، والراديو يتنقل من كفي إلى كف رفيقي , رفض المهربون على ضفتي شط العرب تشغيل الراديو، قالوا هذا خطر، لم نفتحه في خرمشهر، والأهواز، قالوا لا تتحدثوا بالعربية ، وإذا سألوكم قولوا: (آز أهل خرمشهر).
ظل الراديو صامتاً حتى فُتح لأول مرّة في تلك الدار الفارهة على سفوح جبال البرز. كنا نبحث عن ( صوت الشعب العراقي) ، عثرنا على الموقع، كان يتحدث باللغة الفارسية .. علينا أن ننتظر دقائق ، لينتقل البث من ( بكي إيران) إلى (صوت الشعب العراقي)، وإذا بالصبي ( كوماتا) يصرخ بعد الترجمة ( ماما هذا أبي يتحدث )، وعرفنا وقتها، أننا مع عائلة الشخصية القيادية ( جلال رياحي) ، عضو المكتب السياسي لحزب توده الإيراني ، فيما بعد حدثتنا أم ( إرجفان) وهو الإبن الأكبر لجلال رياحي ، والذي كان يتهيأ للإلتحاق بأبيه في المانيا عن سر هذا البيت، الذي إستضاف الشخصية الإسطورية الضابط ( خسرو روزبه )، الذي أقتيد من هذا البيت إلى حبل المشنقة .
خبرتنا أم أرجفان أننا سنذهب إلى باكو ، حيث تقرر أن نواصل دراسة هندسة النفط هناك، وربما لن يتبقى لنا سوى أقل من إسبوع في طهران، لذا فقد كلفت ولديها بأن يأخذاننا إلى شميرانات ، وإستخر تهران بارس ، وبارك شهر ، وبقية المناطق الجميلة في طهران , في إستخر تهران بارس لم نكن بحاجة لتشغيل الراديو، كان صوت فريد الأطرش يصدح في إرجاء المنتجع : ( يازهرة في خيالي .. رعيتها في فؤادي ).
كان محدثنا يشرح لنا الصعوبات التي سنواجهها في طريقنا إلى باكو ، بين أن علينا أن نقطع مسافات طويلة بين الجبال متحاشين حرس الحدود، إلا أنه وضح أن الذين سيوصلوننا إلى حدود إذربيجان السوفيتية يعرفون شغلهم جيداً ، وأن لا خطر علينا، فقط عليكم تحمل التعب والمشقة، وأنتم فتية أصحاء , كنا سعداء بالذهاب إلى باكو، إذ ستطأ أقدامنا أراضي الإتحاد السوفيتي، وهذا ما لم نكن نحسب حسابه، ولا توقعناه , في محطتنا قبل الأخيرة أردنا الإستماع لآخر مرّة لـ ( صوت الشعب العراقي ) إذ سيؤخذ الراديو منا، وربما سيحملونا أشياء أخرى يستلزمها الطريق.
كان المذيع يعيد نص بيان الحزب الذي يطالب الرفاق بالعودة للوطن، بعد التغييرات التي حدثت، وسقوط حكم البعث , تباصرت مع رفيقي وقررنا تلبية النداء، وأشعرنا المكلفين بنا برغبتنا بالعودة , نظر لنا الرجل الذي كان قد حدثنا طويلاً عن الحياة في الإتحاد السوفيتي مندهشاً وقال : هل تتوقعون أن حزباً بهذا الحجم ( يقصد الحزب الشيوعي العراقي) يحتاجكم أنتم؟ , رد رفيقي : بالطبع لا .. لكننا نحن الذين نحتاجه.. , وعدنا إلى طهران، ومن ثم إلى الأهواز ، وما بعد الأهواز كانت السبخة التي علينا إجتيازها في الليل .
مع خيوط الشمس آوينا إلى خيمة .. ليست خيمة ، وإنما خرق بالية، داخل الخيمة صبية متسخين ، وشبح إمرأة ، ورجل يمسك عصاه ، لا نستطيع تمييز لون دشداشته من بشرته , خارج الخيمة كانت الريح تدحرج الشوك والعليق، فيصطدم بعضه بالخيمه ، ثم ينحرف ليواصل التدحرج , كل شيء صغير داخل الخيمة، الرجل، والمرأة، والصبيّة . حتى المفردات مُصغرة: رجيلي( رجلي) ، وليدي( ولدي)، إستكين( إستكان) ، جوي ( شاي) ، فليس( فلس) ، وليس ثمة شيء يمت بصلة لما نتعارف عليه بالنظافة .
والخيمة مضيافة، ومن فيها كرماء ، وكان علينا أن نشرب الشاي بقدح يلتصق باصابعنا، ونشرب الماء بطاسة لا لون لها , هذه الأرض يبدو أنها لا تعود لأحد، فلا هي بحكم إهتمام العراق، ولا هي بحكم إهتمام إيران. . ناسها يعيشون خارج الزمن، لا يعرفون من جاء ومن ذهب، ويعتاشون على بضعة ( دريهمات) من عبور الأشياء والبشر، من دون أن يسألوا عن شيء ، لأنهم لايعرفوا أي شيء، وغير معنيين بأي شيء , كان إنبهارهم بالراديو الروسي بلا حدود، تسمروا بلا حراك ، ومن عجب أنهم يستمعون لا لأغنية ريفية ، وإنما لنشرة الأخبار ، وتعليق على الأحداث , في المساء ، قبل أن نتجه صوب حدود تنومة العراقية ، قدمنا راديو الترانسستور الروسي لرب البيت هدية .
دربناه على كيفية تشغيله ، وكيفية البحث عن المحطات.. , بعد أن دخلنا البساتين التي على مشارف تنومة، تذكرنا أننا لم ننبه الرجل الذي أهديناه الراديو، كيف يبدل البطاريات إذا ما إنتهى مفعولها , ترى ماذا يفعل الرجل الذي بلا إسم، ذاك المتدحرج في السبخة بين التنومة والحدود الإيرانية إذا ما نضبت بطارية راديو الترانسستور الروسي ؟!