ماذا كان ينتظر اصحاب السلطة في المنطقة الخضراء من ابناء العراق الاحرار الذين يعانون الامرين من نظام حكم فاشل بكل معاني الفشل ، غير الرفض والثورة ؟
الرفض لا ينحصر في مناطق غرب العراق كما هو ظاهر للعيان ، والتي تشهد حاليا حركة احتجاجية منظمة وقادرة على حماية نفسها ، وانما هو شامل لاغلب مناطق العراق ومدنه ، فاهل البصرة وواسط وذي قار وبابل ناهيك عن بغداد ليسوا بحالة افضل من اخوانهم في غرب العراق ، بدلالة الاحتجاجات المتتالية التي قام بها اهالي هذه المناطق لتغيير الاوضاع المزرية التي يعيشوها في مناطقهم كشحة الكهرباء والماء الصالح للشرب واستشراء الفساد والمحسوبية والبطالة والفوضى الامنية وفقدان الامل بالاصلاح ، وما الهدوء الحالي في مدن الجنوب الا من النوع الذي يسبق العاصفة ، والتي لا بد ان تكون وطنية بمحتواها ومطالبها وقرينة لما يهب من عواصف احتجاجية في المدن الغربية ، وكذا في بغداد القلب النابض بالرفض لكل ما هو فاسد وظالم ومستقوي بالاجنبي ان كان من دول الجوار او دول الاستكبار .
فلاحو البصرة وصيادوها وحتى تجارها يرفضون السياسة الطائفية للنظام القائم والتي جعلت من البضائع الايرانية سيدة لاسواقها ومن دون رقيب او حسيب ، حتى صار البصراوي لا يجد من يشتري منتوجه ، التمر ايراني ، الفواكه والخضار ايرانية ، السيارات ايرانية ، السمك ايراني ، حتى البنزين ايراني ، بل وحتى الكهرباء صارت تستورد من ايران ، ايران تطارد الصيادين العراقيين وتمنعهم من الصيد في مياه شط العرب ، والفلاح الزبيري يعجز عن منافسة الخضروات الايرانية المعروضة باسعار منافسة بسبب الاعفاء الضريبي الذي تتمتع به ، وصارالتعامل بالتومان الايراني امر فوق العادي ، اما عن تدخلات ممثلي القنصلية الايرانية بشؤون المحافظة فحدث ولا حرج ، حتى كتب المناهج الدراسية تطبع في ايران ، بدلا من ان تطور المطابع الحكومية او تشجيع مطابع القطاع الخاص ، لاسيما وان نسبة البطالة الفعلية في البصرة التي تعتبر العاصمة الاقتصادية للعراق قد تجاوزت 30 بالمئة ، كل هذه الهموم تشكل وحدة واحدة عندما نذكر بواقعة تغيير مجرى الانهار الصابة بدجلة من جهة ايران ، كالوند والكرخة وكارون ، وكيف جعلتها ايران مجاري لتصريف مياه البزل لتزيد من ملوحة الارض العراقية وملوحة شط العرب ، وايضا عندما نذكر بواقعة التجاوزات الايرانية على الابار النفطية العراقية المتاخمة للحدود الايرانية !
يحاول نظام الحكم القائم في العراق ، وتحديدا حزب الدعوة الذي يقود السلطة فيه ، ألباس حركة الاحتجاجات الجارية في العراق ثوبا طائفيا ، يحاصر من خلاله وشائجها الوطنية ، في مسعى حثيث منه للنيل منها ومن مطالبها المشروعة ، فتارة يتهمها بالاجندات الاجنبية ، وتارة يتهمها بالبعثية والارهاب ، وراح بسلوك استباقي خبيث يروج لخطاب اعلامي يصنف الاحتجاجات الى اربعة اصناف واحدة شيعية عادلة تطالب بالخدمات وبالقصاص من الارهابيين والفاسدين ، واخرى سنية معتدلة تطالب بالخدمات وبالعدالة في تطبيق القوانين ، كالمساءلة والعدالة والارهاب ، واخرى شيعية متطرفة تطالب بالتعامل مع السنة كحاضنة طبيعية للبعث والارهاب ، وعليها تحسب جماعة عصائب اهل الحق وحزب الله العراقي ، الذي اعلن زعيمه ، واثق البطاط ، مؤخرا عن تشكيل جيش المختار ، لتصفية البعثيين واللانتقام من الداعين لالغاء قانون الاجتثاث ، وصنف سني اخر مرتبط باجندات البعث والقاعدة ، هذا الخطاب الاعلامي المغالط يفترض ان هناك اجندات اجنبية طائفية تحرك الصنف السني المتشدد لكنه لا يفترض نفس المعنى للصنف الشيعي المتشدد ، وذلك لانه ذاته منخرط فيه وهو يخفي انخراطه هذا بخطاب فضفاض يمارس من خلاله السطوة الطائفية ، وليس الحكم على اسس وطنية عابرة للمحاصصات الطائفية والاثنية ، ثم ان المحتجين يدعون وبوضوح للعدل والانصاف ومحاربة الفساد وتغيير الدستور الذي يبيح تقسيم العراق الى فدراليات اثنية وطائفية ومناطقية ، الى دستور يخدم بقاء العراق موحدا بدولة لا استبداد فيها ، لا من قبل حزب البعث اوحزب الدعوة او اي حزب اخر .
ان من عجل بطفح الكيل ، سياسة التسويف التي يتبعها المالكي نفسه فهو في العلن يدعو للمصالحة الوطنية وفي السر يعجل من استعداء حتى المتحاصصين معه ، وهو لا يجهل تبعات افعاله ، لكنه يريد بها الاستباق وبدعم استخباري ايراني لحسم موضوعة ولايته الثالثة في الحكم ، وهذه لا يمكن لها ان تمر من دون المراهنة على تاجيج الا ستقطاب الطائفي باستفزاز الطائفيين من السنة والشيعة ، والا ما معنى اثارته لزوبعة حماية العيساوي ، وقضية طارق الهاشمي مازالت حية وتبتز من اطراف داخلية وخارجية .
المالكي يعتمد على ايران في تهيئة التحالف الشيعي لقبول فكرة توليه الولاية الثالثة ، حتى ان بعض اطراف هذا التحالف اخذت وبشكل مبطن تستنجد بتدخل امريكي لاعادة التوازن بين التجاذبين الايراني والامريكي في العراق ، فهذا بيان جبر صولاغ رئيس الكتلة البرلمانية للمجلس الاسلامي الاعلى يشكو من عدم التواصل مع صانع القرار الامريكي كما كان الامر ايام بوش الابن !
المالكي يدرك بان اي تغيير لمعادلة الحكم في سوريا لا يصب بمصلحة ايران وبالتالي يضعف من شوكته ، وعليه فان انخراطه كليا في تبني الموقف الايراني ازاء سوريا يستدعي منه اختبار مبكر لردود فعل المتحاصصين معه من السنة وهو في هذه الحالة ضامن للموقف الايراني بكفالة دوره بدعم النظام في سوريا ، لكنه لم يحسب حسابا دقيقا ردة فعل الاهالي المتضررين من النظام بكل متحاصصيه السنة والشيعة والكرد ، لان احوالهم العامة تسير من السيء الى الاسوأ ، فثورة الاحتجاجات الحالية تجاوزتهم جميعا وبمسافات قد لا يستوعبها المالكي ولا مسؤولي الملف العراقي في ايران او امريكا التي عادت من وراء الكواليس للعزف على وتر مشروع بايدن .
ثورة الاحتجاجات الحالية تقاوم وببسالة نادرة قمع ودسائس الاستبداديين والطائفيين من كل شكل ولون ، فهي تقاوم القاعدة وضغوطها الداعية لتفجير الموقف ، عملا بمبدأ ، علي وعلى اعدائي ، وتقاوم فبركات وتحرشات المليشيات الحكومية ، وتجار السياسة من المتحاصصين السنة ، انها وبرغم كونها بين مطرقة السلطة وسندان القاعدة ، لكنها صامدة ومتفوقة لان افرادها يدركون بانهم لا يملكون شيئا يخسروه في هذا الصراع غير قيودهم !
بيانات القاعدة تحث المحتجين في الانبار والفلوجة وغيرها من مدن المناطق الغربية على حمل السلاح بوجه السلطة المتخبطة بفشلها ، وهي لا تبخل عليهم بكرم التحريض والتهديد والتجييش الطائفي ، معتبرة اذلال اهل السنة هو الهدف النهائي لحكم المالكي ، وعملية اخضاعهم بالقوة هي جوهر عقيدة الجيش الذي يقوده ، وهي وسيلته لجعل الحكم في بغداد حكرا على اهل الشيعة .
القاعدة ومن يسايرها من بعض الفعاليات في العراق يعتبرون الصحوات عدوهم الاول بعد قوات حكومة بغداد ومن يحالفها من ابناء المناطق الغربية ، ويذكرنا اغتيال الشيخ عبد الستار ابو ريشة ، بالحرب الفعلية التي كانت ومازالت ذيولها قائمة بين اهم عشائر الانبار وصحواتها المسلحة وبين خلايا القاعدة وتشكيلات دولة العراق الاسلامية ، وكانت فصائل المقاومة العراقية المسلحة التي تكافح المحتلين ترفض محاولات القاعدة لفرض نموذجها عليها ، وهذا ما سهل مهمة الصحوات في تضييق الخناق على تنظيماتها ، والان تنظر الحكومة للصحوات كعبأ يجب التخلص منه ، حتى لو تطلب الامر جعلها مكشوفة الظهر امام هجمات القاعدة التي تريدها الحكومة فزاعة لتغلغلها الطائفي في المناطق الغربية .
بعد ان اتم المحتلون انسحابهم من العراق ، توقع اصحاب النوايا الطيبة من المتابعين للشأن العراقي ان يتلمس المستخلفون على حكمه الاعذار لانفسهم من شعبهم ، وذلك من خلال سعيهم لازالة اثار الاحتلال ومعالجة الشروخ العميقة التي خلفها ، كبراءة ذمة من شراكتهم له وسيرهم وراء اهدافه ، وان يعملوا على استرضاء المقاومة العراقية من خلال تبني مشروع حقيقي ومتكامل للمصالحة الوطنية ، وتهيئة مايلزم لانجاز ذلك ميدانيا وتشريعيا ، كاحياء لجنة متوازنة لتعديل الدستور ومعالجة كل بنوده المتناقضة والتي لا تتعامل مع ابناء العراق كمواطنين بهوية جامعة نسغها الاول الذات الثقافية العربية الاسلامية ذات الخصوصية العراقية المتشبعة بتعددية المنحدرات ، وبنفس هذا المنطلق اعتبار بغداد بثقافتها العربية الاسلامية عاصمة للملايين من السنة والشيعة والكرد والتركمان والمسيحيين وليست مجرد عاصمة سياسية لامصار لا جامع بينها ، وايضا الغاء قوانين الاجتثاث والمخبر السري ، وكل الاجراءات الاقتصادية التي جعلت من العراق مكبا للمستوردات واسهمت في تهميش القطاع العام وتدمير البنى التحتية للصناعة والزراعة وعودة شركات النفط الاحتكارية للعبث بثروات البلاد .
ان الدعوة لالغاء سياسة الانتقام من منتسبي البعث لا تعني عدم مقاضاة مرتكبي الجرائم وقت النظام السابق بل يجب ان تفعل المقاضاة بحقهم كي تكون اساسا عرفيا وقانونيا لملاحقة منتسبي النظام الحالي الذين يرتكبون ابشع الجرائم السياسية والانسانية والجنائية المزدوجة ، والذين استباحوا فيها كرامة وثروة ومستقبل الشعب العراقي .
اذا كان اصحاب السلطة اليوم يعيبون على النظام السابق تعامله القاسي مع معارضيه واسرافه وبذخه في بناء القصور ، فان اتباع النظام الحالي يسرقون المليارات ويهربوها خارج البلاد ، والمعتقلات والاعدامات وفنون التعذيب في زمنهم فاقت ما كانت قائمة في زمنه ، وفضائع اجهزة الامن التي تضخمت اعدادها ، تفوقت عما كان موجودا ، وهذه المقارنة لا تعني المفاضلة بقدر ما هي ردود منطقية على ادعاءات القائمين على الحكم اليوم ، على اعتبار ان الشعب العراقي يستحق ما هو افضل مما كان عليه ايام النظام السابق ، والنظام الحالي الذي يهدم ولا يبني ويبيع للاجنبي مقدرات البلاد ويسرق دون حساب ، والشعب في زمنه لم يجني سوى العذاب !