مرور عشر سنوات على الغزو الأمريكي للعراق ليس حدثاً عابراً أو مناسبة سياسية او عسكرية يمكن التعليق حولها بمزيج من العاطفة والأرقام , فسجل هذه المحنة وتأثيراتها السياسية والأمنية والاجتماعية والانسانية يحتاج الى عشرات المؤلفات ومئات الندوات والدراسات والى مراكز البحوث والمعلومات , في هذه السطور القليلة سأكتفي بإيراد إشارات سريعة من دون توثيقات رقمية لأنها مفزعة , ولابد من أن تأتي اللحظة التي يزاح فيها هذا الكم من الأوهام التي سوّقت لتحسين صورة الاحتلال وإظهاره بالمنقذ من الدكتاتورية السابقة مما ” يتطلب تقديم العرفان لجنوده وتحية رفاتهم من قبل أعلى مستويات الحكم الحالي في العراق ” وتحل محلها الحقائق كما جرت لتتحول الى جزء حي من تاريخ هذا الشعب العظيم .
الإشارة المهمة الأولى هي إن قرار إزالة النظام السابق عبر القوة العسكرية إتخذته مجموعة اللوبي اليميني الأمريكي المتطرف ( وولفيتز وبيرلي ورامسفيلد ) المهيمنة على البيت الأبيض والمتناغمة مع جموح بوش الذي وجد إن ساحة العراق هي الحقل الأكثر ملاءمة لتنفيذ مشاريع الفوضى الخلاقة وبناء ” الشرق الأوسط الكبير ” وكان الهدف تدمير بنية الدولة العراقية التحتية ومؤسساتها وطبقتها البشرية الحية , ومنع العراق من أن يكون متصدراً لمواجهة ذلك المشروع الاسرائيلي , واحلال فوضى سياسية داخل هذا البلد تتصدرها دعاوى الولاءات الطائفية والعرقية بأدوات سياسية كانت جاهزة داخل المعارضة العراقية قبل 2003 عبر عراب الصلة الساخنة بين واشنطن وطهران ” أحمد الجلبي ” , وأجهضت دعوات التغيير من الداخل التي كانت حاضرة عبر مشروع ” أياد علاوي – CIA ” مشروع الغزو كان يحمل في صفحاته اللاحقة ” تشريع الدستور وقوانين الاجتثاث والارهاب ” في أحد الأيام قبيل انتقال الجلبي لشمالي العراق لتنفيذ مشروع الغزو العسكري , زرته في نهاية ديسمبر 2012 بمكتبه في لندن أنا والأخ ستار الدوري الذي بادره بالسؤال عن خطة تنفيذ قانون الاجتثاث , أجاب وفي يده قائمة ” لا يوجد أكثر من هؤلاء العشرة المعاونين لصدام ممن سيشملهم الاجتثاث ” . شعور قادة حزب الدعوة بصورة خاصة بأن هذا القانون هو بمثابة صمام أمان وسواتر دفاعات أمامية من أية احتمالات لمعاودة حزب البعث نشاطه السياسي , وإن الضحايا يستحقون هذا الثمن . أما ما يصدر هذه الأيام من تصريحات لمسؤولين بريطانيين وأمريكيين للتنصل من مسؤولية شن الحرب على العراق , وإنها لم تكن مبررة , فلا يلغي ما تركته من آثار , ولعل أخطر حلقة كانت ما قدمه عملاء عراقيون بينهم سياسيون متضررون من النظام السابق من تقارير مفبركة عن امتلاك العراق للأسلحة الكيميائية والبيولوجية .
الإشارة الثانية هي إن الهدف الأمريكي الإيراني المشترك كان منع وصول نظام وطني جديد قائم على الديمقراطية والمواطنة وإشاعة السلم الأهلي والعدالة , وإنما تركيب نظام يعتمد على المحاصصة الطائفية في الحكم كجزء من ” الطوائفية السياسية ” وفقرات هذا المشروع أبلغت لجميع أطراف معارضة ” مؤتمر لندن ” ديسمبر 2012 , وقسمت الحصص على هذا الأساس . وللتاريخ أذكر إن السفير خليل زادة المعين من قبل بوش كممثل له في المعارضة والذي حضر الى لندن لتنظيم مؤتمر لندن , طلب مني ومن الأخ صلاح عمر العلي مقابلته باعتبارنا من بين المعارضين لنظام صدام في الخارج , أبلغنا خلال الاجتماع رغبته بحضورنا لمؤتمر لندن كممثلين للعرب السنة , وقد اعتذرنا عن ذلك لأننا لسنا طائفيين , ورغم المشاركة الفردية من قبل البعض لكنهم جميعاً لم يقبلوا هذا العنوان , ما عدا ” الحزب الاسلامي العراقي ” وتمت إزاحتهم في المراحل اللاحقة قبيل دخول بغداد وتأمين هيمنة القوى الاسلامية ” الشيعية والأكراد مع وجود رمزي لحركة الوفاق ( علاوي ) . والسفير بريمر الذي خلف الجنرال ” جاغنر” الذي كانت لديه رؤية إبقاء مؤسسة الجيش ومؤسسات الدولة الأخرى , لم يكن سوى موظف توفرت له لحظة حظ تاريخية مثل السياسيين العراقيين قبض من خلالها ثمناً باهضاً لقاء قتله الأطفال والأبرياء العراقيين ونجاحه في تدمير مؤسساة الدولة العراقية خلال أشهر وتسليم أطلالها للحكام الجدد وللمليشيات الطائفية . المنهج الطائفي الذي انتشر في مرافق الحكم والمجتمع , لم يكن حدثاً عفوياً طارئاً , وإنما تحول الى سلوك ” مقّدس ” له رجاله وأدواته وميليشياته التي تصاعدت حدتها في الحرب الطائفية عامي 2006 و2007 . المحاصصة الطائفية وفرت الفرص لجميع من شارك في العملية السياسية , ومحاولة الخروج من هذا النظام اليوم تأتي بعد أن ترسخت مواقع حزب الدعوة في جميع مرافق الحكم , وشعوره بأنه لم يعد يحتاج الى عكازات سياسية . إلا أن هذه المهمة ليست يسيرة , فاذا كانت عملية تجاوز الشركاء من العرب تبدو سهلة عن طريق خلق بدائل , فإن معادلة الأكراد تبدو شاقة . وسيبقى ” المشروع الطائفي ” هو الأخطر من الاحتلال الذي إنتهى رسمياً في العراق .
الإشارة الثالثة – هي أن التفكك والانهيار في منظومات العمل الأمني وغياب مؤسساته العريقة وحلول المليشيات المسلحة قد فتح الأبواب لشبكات الارهاب وتنظيم القاعدة للانتعاش وليتحولوا الى أدوات بيد جهات سياسية واستخبارية تستخدمهم وفق أغراضها ,والاستخدام الانتقائي لقوانين المساءلة والعدالة وقانون مكافحة الارهاب . والضحية كانت وما زالت جموع الأبرياء المدنيين , وأن تنتعش وتحمى وفق ذلك شبكات الفساد المالي والاداري التي تحولت الى قوى نفوذ خطيرة . نهبت المال العام الذي كان يمكن أن يضع هذا البلد على عتبة النمو والتقدم وحماية الانسان . وبرغم الانفاقات الهائلة خلال السنوات العشر الماضية ما زال النظام الأمني العراقي هشاً ومخترقاً على جميع المستويات , وسيبقى كذلك إن لم يتحقق الأمن السياسي في العراق .
الإشارة الرابعة – النتائج الأكثر خطورة من آثار الاحتلال هي الجوانب الاجتماعية والانسانية , فقد حصل تفكك اجتماعي مرعب تزرعه تيارات طائفية ومذهبية متعددة ( سنية وشيعية ) من جانب , وكردية من جانب آخر . وهذه الحالة أصبحت البيئة الحاضنة لمخاطر اندلاع الحرب الأهلية في العراق مجدداً . وكذلك غياب معايير حقوق الانسان وشواهد التعذيب في السجون دليل على ذلك والأمريكان أكثر جرأة من العراقيين في كشفها , مثال ذلك فضيحة “أبو غريب ” , وكارثة البطالة بين الشباب الذين أصبحوا لقمة سهلة لغول المخدرات والانضمام الى التنظيمات الارهابية . اما ملفات الطفولة والمرأة والخدمات الصحية فأرقامها مخيفة , ولا يوجد ما يشير الى معالجات جذرية لحلها . المنظمات الانسانية كانت تقول ” العراق خالي من الأمية والمخدرات ” ولعل الجرح المفتوح الذي يهدد حاضر ومستقبل شعب العراق وخصوصاً طفولته فهي حالة النزوح الجماعي والتشريد العائلي خارج الوطن خلال عامي 2006 و2007 .
في عام 2013 هذا هو حال العراق كنت أتمنى التشبث بميدان قدم لشعب العراق مكسباً لغير السياسيين والمنتفعين لكي أذكره ما عدا الحرية والديمقراطية الشكلية التي لم تقدم خبزاً وأمناً للمواطنين , ومع ذلك لم يتمكن سياسيوا العراق داخل وخارج الحكم من تلمس طريق للخروج من هذا الكهف المرعب .