لو تصورت نفسي ناقدا، فإنني أفضل أن أسير الى العمل الأدبي واضعا فلسفتي وراء ظهري لا أمامي، وأن أقدر العمل كإنسان له فلسفته، لا كفيلسوف فذ لا يخلو من إنسانية هكذا أوجز الأديب الراحل نجيب محفوظ رؤيته للنقد وللناقد في كلمات قليلة أبانت أيضا عن المنهج الذي اتبعه محفوظ في تعامله كقارئ مع النصوص الأدبية، وهو المنهج الذي حاول الدكتور تامر فايز استكشافه في أحدث كتبه (نجيب محفوظ ناقدا). مقاربة تأويلية لحواراته في المجلات الأدبية يرى فايز أن نجيب محفوظ في حواراته كان ناقدا متمكنا من مقولاته وصيغه النقدية، ملما بعناصر ثقافية عامة ونقدية خاصة جعلت منه ناقدا متمكنا، وهي الصورة التي يحاول الكتاب الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2018، أن يكشفها عبر صفحاته محللا ثلاثين حوارا أجريت مع محفوظ خلال الفترة من 1957 حتى عام 2005، اي قرابة نصف قرن، وهي فترة تمثل زخم الثقافة العربية على تشعب مكوناتها وعلى رأسها المكونين الابداعي والنقدي.
ثلاث صور لمحفوظ
تعامل تامر فايز في كتابه مع حوارات نجيب محفوظ باعتبارها خطابات من نوع مخصوص، تحمل في ثناياها الصورة الحقيقية لمحفوظ وهي صورة ثالثة تختلف عن صورتين شائعتين له على مستويي الذات والإبداع، فمن ناحية الذات (شخصية نجيب محفوظ) فقد تم تصدير صورة ما له بعد فوزه بجائزة نوبل 1988؛ وهي صورة اتسمت بالكثير من المغالطات، لا سيما في ما وصل للعوام الذين يعرفونه عن طريق الأفلام التي قدمتها السينما عن رواياته، فأشيع أنه مسيحي وأنه يكتب ضد الاسلام. أما الصورة الثانية فتشكلت لدى القراء الذين بحثوا عن سيرته في ثنايا رواياته. اما على مستوى الابداع فقد ظهرت ايضا صورتان له، الأولى انعكست في أذهان عامة المتلقين لأعماله، كما ظهرت في السينما، وقد لامست لديهم الأوتار الحساسة سواء كانت عقائدية أو اجتماعية أو سياسية، والثانية تشكلت في وعي المثقفين الذين لم يتعرضوا للعبث في أفكارهم بنجيب محفوظ وفكره كما تعرض العوام، وهذا أكسب الحوارات مع محفوظ قيمة كبرى، فقد تناثرت عبرها ملامح الصورة الثالثة لنجيب محفوظ ناقدا، وقد بدأ مؤلف الكتاب محاولته لتجميع ملامح تلك الصورة بالتوقف عند اختلاف النقاد حول كتابة محفوظ لسيرته الذاتية، فمثلا غالي شكري رآه واحدا ممن سعوا لسرد الذات معتمدا على تصريح للروائي الكبير بأنه هو كمال في الثلاثية، بينما محمد بدوي يذهب الى أن محفوظ بدأ بنفي ذاته عن الكتابة وتمويهها، وآخرون سايروه وتحدثوا عن مفارقة تتمثل في أن الرجل الذي أدمن سرد حيوات الناس وترميزها وإثقالها بالمعاني لم يتحدث مرة واحدة عن نفسه بوضوح وحسم. ويختلف المؤلف مع كلا الرأيين، فقد اعتمدا على قراءة تجزيئية في فهم السرد/ النقد ذاتي لدى نجيب محفوظ، بينما القراءة التكاملية تكشف بجلاء عن أهم ملامح نجيب محفوظ الذاتية، فالقراءة لحواراته تكشف عن حضور الجانب الذاتي والعائلي والثقافي والسياسي لديه، كما ظهر محفوظ في أغلب هذه الحوارات ناقدا ومنظرا، فقد صاغ نظرية شبه متكاملة للابداع الروائي مستفيدا من خبراته الإبداعية التطبيقية ومن قراءاته. ذكر غارسيا ماركيز مرة أنه كان يتعمد أن يصنع في رواياته فخاخا للنقاد، وكان يسعده أن يقعوا فيها، لكن نجيب محفوظ ودون تعمد بث في حواراته فخاخا لنقاده، تلك الفخاخ العفوية بدت آثارها في ما كتبه النقاد عن محفوظ، ورصد تامر فايز بعضه في فصل مستقل عن (تأثيرات النقد المحفوظي في النقد الأدبي العربي)، فيذكر أن هذه الحوارات شكلت مرتكزا أساسيا اعتمد عليه النقاد في اصدار أحكام نقدية سواء لصالح شخص وأدب نجيب محفوظ أو ضدهما. ومن الدراسات التي أفادت كثيرا من تلك الحوارات، كتاب “المنتمي” لغالي شكري حيث اعتمد الناقد على تصريح نجيب محفوظ في حواراته بأنه هو كمال عبدالجواد في الثلاثية، في بناء فرضيته الأساسية القائمة على فكرة الانتماء، كما كانت تصريحات محفوظ مؤثرة كذلك في القضايا الفرعية التي ناقشها كتاب المنتمي . ومن الدراسات التي تأثرت في أحكامها القيمية والجمالية بالحوارات دراسة ادوار الخراط “نجيب محفوظ: القدرية كموقف من الكون”، فقد اعتمد على قول نجيب محفوظ إن رواياته التاريخية الأولى كانت تتمسك بقضايا الحاضر، لينفي عن تلك الروايات صفتي التاريخية والرومانتيكية، وحكم على أسلوب نجيب محفوظ في تلك الفترة بأنه تقليدي قديم وجاحظي، وقد استعرض الكاتب دراسات أخرى لنقاد آخرين بنوا فرضياتهم وأحكامهم تحت تأثير واع أو غير واع لتلك الحوارات .