عادة مايترحم الأحياء على أرواح الأموات، وهذا قطعا لايعني انحسار الرحمة على الأخيرين دون الأولين، فالرحمة كما يقول أهلونا (للميت والعدل) ودعواي اليوم ان تنزل الرحمة مرتين على روح شاعرنا معروف عبد الغني الرصافي، مرة لأنه ميت ومرة لأنه (عدل).
اما كونه ميتا فهو أمر واقع حدث يوم الجمعة 16/ 3/ 1945 بداره في محلة السفينة في الأعظمية، وصعدت روحه الى بارئها، ودفن في مقبرة الخيزران، وانقضت حياته الزاخرة بالمجابهات والاحتدامات مع الساسة والحكومات إبان العهد الملكي. أما كونه (عدل) فما قصدته هو استمرار الحياة في إحدى قصائده التي نظمها بحق حكومة المملكة العراقية آنذاك، وأظن أن هذه القصيدة تصلح أن تُعلق على جدران مجالس دولة العراق في القرن الواحد والعشرين، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وكذلك الرئاسية، أسوة بالمعلقات السبع التي كانت تعلق على جدار الكعبة قبل قرون.
مادعاني الى الإعجاب بالقصيدة -إضافة الى جزالة الألفاظ وسبك المعاني والتوظيف الحسن في الجناس والطباق- هو كونها قصيدة أزلية الزمان، بإمكان أي عراقي الاستشهاد بأبياتها في الأوقات كلها ومع الحكومات التي تتالت على حكمه جميعها، سواء أمنتخبة كانت أم مفروضة، أم متوارثة أم (غضب من رب العالمين).!. سأقتطف في مقالي هذا بعضا من أبياتها الثلاثة وأربعين، وأضعك سيدي قارئ سطوري هذي موضع الحكم والمنظّر، ومقارنة فحواها مع واقع ما يعيشه العراقيون اليوم، ومناظرتها مع يحصل بين ظهرانينا، يقول الرصافي:
أنا بالحكومة والسياسة أعرف
أأُلام في تفنيـدهـا وأعنَّـف؟ هذي حكومتنا وكل شُموخها
كَذِب وكل صنيعهـا متكلَّف
وأرجو أن لايؤاخذني القارئ إن كانت سياسة إحدى الحكومات المتعاقبة على حكم بلده قد أعجبته وراقت له، فالرصافي المسكين لم يكن يعلم من سيخلف الحكومة التي جايلها، وحتما انه نظمها في أعضاء الحكومة حينها حصرا، إلا أن سوء حظ العراقيين ان تكون كراسي الحكم والمناصب العليا في بلدهم حكرا على سلوكيات وسياسات واحدة، بصرف النظر عن الشخوص التي تتبوأها، ولنا في الأخيرين خير مثال. أعود لمعروفنا.. فهو يكمل ويقول:
غُشَّت مظاهرها ومُوِّه وجههـا
فجميـع ما فيهـا بهـارج زُيَّف وجهـان فيهـا باطـن متستـِّر
للأجنبـي وظـاهـر متكشـِّف
والباطـن المستور فيه تحكّــم
والظاهر المكشوف فيه تصلُّف
والباطن الذي ذكره رصافينا أراه يتجسد فيمن يتحكمون بمصائرنا اليوم، فهم لايتوانون عن تمشية مآربهم الخاصة دون الالتفات الى مصالح البلاد وملايين العباد، بل هم فاقوا من سبقوهم في التحكم والحكم بجاحة وقباحة وتصلفا، بإظهار
الباطن من نياتهم السيئة، وكشف المستور من أعمالهم المريبة دون مخافة رادع او مراعاة وازع. والمؤلم في الأمر أن أغلبهم يرتدي على رأسه قطعة قماش، منها السوداء ومنها البيضاء، ملفوفة مبرومة بحبكة تحاكي سلوكهم في اللف والدوران، وتشبه الى حد كبير أسلوبهم في الالتفاف على العرف والمنطق والأصول، وكذلك على حقوق الرعية، وقد كان من المفترض أن يتصف مرتديها بالورع والتقوى والزهد والاستقامة ومخافة الخالق. وأبقى مع الرصافي ليأخذنا الى بيتيه:
عَلـَم ودسـتور ومجلـس أمـة
كل عن المعنى الصحيح محرف أسماء ليس لنا سوى ألفاظها
أمـا معانيهـا فليسـت تعـرف
هنا أنوه عن وجه التقارب الشديد بين ماقاله الرصافي قبل أكثر من ثمانين عاما، وبين ما معروض في الساحة السياسية بين دهاليز الحكومة والبرلمان وأروقتهما اليوم، والحُكم كما أسلفت للقارئ. فأسماء مؤسساتنا وهيئاتنا لها وقع مدوٍ بموازين الكلمات ودلائلها، والمصطلحات ومعانيها، فنسمع مثلا؛ هيئة النزاهة، هيئة رعاية الطفل، مؤسسة حقوق الإنسان… فضلا عن المجلس الناطق باسم الشعب والممثل الأول له مجلس النواب، إذ أن نوابه نواب لجلب النائبات لاغير، ناهيك عن الأسماء والألقاب الرنانة التي يحملها ساسة عراقنا الجديد، والتي كان حريا بهم أن يتصفوا بها، فتكون اسما على مسمى، لا كما يقول مثلنا؛ (اسمه بالحصاد ومنجله مكسور).
هذا غيض من فيض قصيدة الرصافي بحق حكومة وساسة لم تكن أفعالهم لصالح المواطن، فما عساي اليوم أن أقول عن حكومة وساسة، لم يحققوا للعراقيين غير النكوص والتقهقر والانحدار في خطوط مفاصل البلد البيانية كافة، وقد كان دأبهم هذا وديدنهم طيلة ستة عشر عاما مضت، ومازال وسيبقى هكذا على مايبدو.