مهما اجتهد الحاكم الدكتاتور، في إخفاء نزعة التسلط التي تسري في دمه، فإنه سيفشل. الدكتاتورية مرض سببه فايروس لا يسلم من الإصابة به إلاّ من كان ملقحا ضده أو لديه مناعة، مكتسبة أو موروثة، تحميه. ولفايروس الدكتاتورية أعراض تبدأ بالظهور على المصاب بعد أشهر قليلة من توليه السلطة. غالبا ما تكون خفية في بدايتها فلا يلاحظها، من الشعب، إلاّ ذو فطنة وحظ عظيمين. لكن مع مرور السنين تزداد تلك الأعراض حدة فلا يستطيع الدكتاتور إخفاءها ولا يصعب على الشعب ملاحظتها. شاعر شعبي من أهل السماوة قال مرة انه يعرف الدكتاتور من مشيته!
وكل أمة تبتلى بحاكم دكتاتور ثم تتخلص منه بأي طريقة يفترض أنها تتحصن من الابتلاء به مرة أخرى. الأمم الحية لا تلدغ من جحر الدكتاتورية مرتين. فأوروبا التي خبرت أعراض فايروس الدكتاتورية ودفّعها السكوت عنها بحارا من الدماء في حربين عالميتين، صارت تُقبِر الفايروس وتُسقِط من أصيب به حال ظهور أول أعراضه. وهكذا يجب أن يكون العراق الذي قضى أكثر من ثلاثة عقود تحت حكم أبشع دكتاتور في العصر الحديث. فهل يلاحظ العراقيون اليوم تصاعد أعراض فايروس الدكتاتورية القاتل؟ الجواب المر الذي لا بد من قوله هو أنهم قطعا يلاحظون ذلك لكنّ كثيرا منهم، وللأسف، ينكر وجوده لأسباب طائفية محضة. الطائفية، وكما قلت مرة، لا تكتفي بتعطيل الحواس الخمس، بل تأتي حتى على الحس الإنساني فتقتله.
أم المصائب أن ينتقل تأثير داء المحاصصة إلى طريقة تقييم الناس للدكتاتور. فأي داء يصيب الشعب أشد بلاء من داء يجعل الشيعي يرفض الدكتاتور السني لكنه يصفق للشيعي، ويجعل السني يقبل بدكتاتور من مذهبه ويرفضه إن كان شيعيا؟ كيف نسي هؤلاء أن الدكتاتورية مثل الإرهاب لا دين لها ولا مذهب ولا ضمير؟
الأشدّ من ذلك كله أن تجد من يأتيك معاندا مكابرا ناكرا وجود أي عرض من أعراض الدكتاتورية في “عراق اليوم”. ففي رد على عمودي أمس، كتب لي احد “عشاق المالكي”، كما يسمي نفسه، رسالة مطولة غاضبة يتحداني بها أنا وكل “المراجع الشيعية” إن أتيناه بدليل واحد يؤكد أن الدكتاتورية قد عادت للعراق. وجدت أني لو كتبت له كل الدلائل فسأظل أكتب حتى الصباح. وبما أنه طلب دليلا واحدا، فلم أجد غير أن أكتب له باختصار: أخي العزيز خفف من غضبك أولاً، وثانياً سأختصر لك إجابتي بأن علامات الدكتاتورية لا تحتاج إلى جهد كبيرلاكتشافها لأنها مثل علامات المنافق الثلاث “إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان”. ها .. شتكول؟