أنا أتأمّل.. إذن أنا موجودأنا أتأمّل.. إذن أنا موجود
آخر تحديث:
محمّد صابر عبيد
التأمّل شاشةٌ عملاقةٌ فائقةُ الأبعاد والمميزات تتحرّك أصابعه وأدواته وانطلاقاته في فضاء الأثير بلا حدود ولا مصدّات، ويتمثّل بطبقات تنفتح الواحدة على الأخرى على نحوٍ بالغ الصفاء والثراء والقيمة، وتعمل في سياقه شبكة من المنظومات الذاتيّة النفسيّة والحلميّة والتصوّريّة على وفق رؤية منتظمة تسيرُ في الاتجاهات كلّها من دون حواجز أو مُعيقات، فالحريّة المتكاملة والمتجانسة التي تتجلّى بين تضاعيف الصورة التأمّليّة الشاسعة تذهب إلى أقصى معناها حتى يكون بوسعها تحقيق ما تصبو إليه من إنجازات لا نظير لها.
تعمل في فضاء الحراك التأمّليّ الدائب آليّتان اثنتان، الأولى آليّة (التطلّع) وهي آليّة عقليّة يستثمر فيها المُتأمِّل طاقاته العقليّة القادرة على النفاذ باتجاه أفق الآتي لوضع أهدافه ومقاصده وأحلامه في مستوياتها ومقاماتها ومراكزها ومواضع تنفيذها، كي يكون بوسعه رؤيتها وهي تتحقّق في مرمى التأمّل على نحوٍ افتراضيّ تطلّعيّ يتعلّم فيه الكيفيّة التي بوسعه النهوض بها، مكتسباً إيّاها من وهج هذا التأمّل الباهر الضارب في أعماق الفضاء، بوصفه درساً روحيّاً تجريبيّاً يتيح للعقل ممارسة دوره في مقاربة الأشياء والاشتباك مع تفاصيلها على شاشة التجريب، والآليّة الثانية هي آليّة (الاستشعار) التي تعمل فيها الروحُ حين تتجلّى بصفاءٍ مثاليّ شديد الحساسيّة والانتباه والتعرّف، ليكون بمقدورها تحسّس الأشياء عن بُعْدٍ وتمثّل إمكاناتها وطاقاتها لإدراك كيفيّة الإفادة منها لاحقاً.
يقتضي التأمّل من الفاعل التأمّليّ (المُتَأمِّل) أن يقوم بعزل الواقع والمحيط عزلاً تامّاً كي يتاح له فرصة الانفراد بالفضاء التأمّليّ من غير مُعيقات ميدانيّة، تخلّ بوحدة اللحظة التأمّليّة وخصوصيّتها ونسيانها لكلّ ما تحمله الذاكرة من أعباء وحوامل وذكريات وتجارب، وهي مَهمّة ليست باليسيرة وتحتاج إلى مكابدة شرسة كي يكون بوسع هذا المُتَأمِّل أن يخونَ ما يتّصل به من تاريخ اجتماعيّ وثقافيّ ومعرفيّ ووجدانيّ سابق، ويهمله ويتناساه ويوقد فيها ناراً ذات لهب حتّى لا يبقى منه ما يقلّل من انفتاحه على أوسع أفقٍ ممكنٍ بلا حساب.
أنواع التأمّل كثيرةٌ لكنّها ربّما تنتهي إلى أحد النوعين الآتيين، الأوّل (ذاتيّ غير مقصود) يدفع المرء إلى حاضنة الفعل التأمّليّ لحاجة نفسيّة لا يمكنُ صدّها أو ردُّها أو التصرّف بها على غير هذا النحو، ليجدَ نفسه في حالةِ تأمّلٍ عميقةٍ تشبه فعل التطهير حيث يتمّ محو الوجود الطبيعيّ تماماً لصالح وجودٍ فضائيّ تتحلّلُ الذاتُ فيه من التزاماتها المكانيّة والزمنيّة كافّة، والثاني (فلسفيّ مقصود) يتحوّل إلى نوعٍ من التمرين الروحيّ على الانقطاع عن الماحول والتفرّغ للرؤيا في سياق التزوّد ممّا يتيسّر من طاقات إيجابيّة تمنحها لحظة التفرّد واختراق حُجُب الأفق.
تتميّز لحظة التأمّل الاستثنائيّة بمجموعة من الخصائص في مقدّمتها حريّة الانطلاق وسعة الفضاء وقوّة البلوغ، وتجري هذه العمليّة في سياق ملء فراغات الواقع وسدّ نواقصه وإثرائه، ونقله من حالة الركود إلى الحركة، ومن السواد إلى البياض، ومن الإغفاءة إلى اليقظة، ومن وحدة المركز إلى تعدديّة الهوامش، ومن الأرض إلى السماء، ومن اليابسة إلى الماء.
ترتبط حالة التأمّل بتنوّع الأفكار وتعدّدها وانتشارها وديمومتها وحداثتها على نحوٍ لا متناهٍ، إذ تخرج من محدوديتها ومحوريّتها وتمركزها وأرضيّتها نحو أفقٍ متواصلٍ غير منقطعٍ لا يعرفُ الركودَ أو السكوتَ أو الكسلَ، وتسهم لحظة التأمّل في طرافتها وحيويّتها بتقويض المنطق المُتّفَق على تداوله بطمأنينةٍ نائمةٍ، وترميم إخفاقات العقل وانتكاساته وخطاياه والانتقال نحو عالم يختاره الحلم الإنسانيّ في أعلى درجات صفائه ونقائه وحساسيّته، فالتأمّل حاجة قصوى لكلّ من لا تسعه مساحات الواقع وملاعبه لأنّ فيه ما يفيض على طاقة الواقع وقابليّته للاستيعاب مرتفعاً بالأشياء إلى سماءٍ بلا حواجز.
إنّ الوجود الملموس واقعاً، والوجود المتخيّل تأمّلاً، عالمان متناقضان في منهجيهما لكنّهما متصالحان في إسهامهما المتفاعل المشترك لتشييد معنى الحياة من دالّين لا يستغني أحدهما عن الآخر، فلولا وجود الواقع الملموس ما كان المتخيّل التأمّلي موجودً، أحدهما يكملُ الآخرَ في معادلة لا يمكن للحياة أن تقوم من دونهما، وحالة التأمل تتمثّل داخل هذه المعادلة الكبرى بوصفها سياحةً تتصالح فيها قوى الإحساس العرفانيّ مع قوى العقل البرهانيّ، للتحليق نحو أبعد نقطة ممكنة أو محتملة أو متخيّلة قادرة على التشكّل في أيّ جزء من أجزاء هذه الشاشة العملاقة.
الواقع مقيّد بحواس معروفة والتخيّل الذي هو مساحة التأمّل حرّ بحواس غامضة وغير محدودة يتجاوز فضاء الواقع ويخترق حُجُبَهُ ويطلق للذات شهوتها في معرفة المزيد، وبالحواس التقليديّة المعروفة والحواس الأخرى (ما بعد الحاسّة الخامسة) يحيا الإنسان، وحين يتسنّى له القول: أنا أتأمّل إذن أنا موجود، فهذا يعني أنّه تمكّن من احتواء شحنة المعادلة.
التأمّل مرتبط بالأمل بعد صوت التاء الذي يمتدّ من لسان اللفظ نحو أرض الأمل التي تعتلي أرض الواقع صعوداً في سماوات التخييل الغيميّة الكثيفة ذات العتمة المغرية المحبّبة، فالأمل مشروعُ حياةٍ كفيلٌ بدحرِ كلّ أشكال القنوط والإحباط والكآبة واليأس، والخروج نحو حياةٍ تندلع فيها نداءاتُ الفرح والبهجة والسعادة باتّجاه سعةٍ ورحابةٍ لها بداية ولا نهاية لها.
التأمّل سلوك فلسفيّ وممارسة وجدانيّة معرفيّة لا يمكن تفكيكها بسهولة لفرط تعقيدها واستعصاء آليّات عملها وشساعة حدودها أو أنّها بلا حدود أصلاً، حالة التأمّل حالة صوفيّة ذاتيّة فريدة يرتحل المُتَأمِّل فيها داخل أروقة خيالهِ ليرى ما لا تراه عينُه خارجها ويسمع ما لا تسمعه أذنه خارجها، فتتشكّل لديه رؤية جامعة تغذّي عقله المعرفيّ والعاطفيّ بمزيدٍ من الكثافة الروحيّة التي تتحوّل إلى رصيدٍ لطاقة إنسانيّة تغلّبُ الحياةَ على الموت، والجمال على القبح، والحريّة على العبوديّة.تتجلّى حالة التأمّل بوصفها أداءً نوعيّاً فريداً ينهض على مجموعة من التقانات والأدوات الاستثنائيّة، مثل التفكير وحلم اليقظة والاسترجاع والاستباق وتلخيص للأزمنة والأمكنة بأسلوبيّة سرديّة تعتمد نسق التشكيل الحكائيّ في بناء الفضاء الخاصّ بعالم التأمّل، وما يترشّح عنه من حكايات تؤلّفها آلة المحكي التأمّلي بما ينسجم مع الضرورات التي تفرضها اللحظة التأمّليّة، وتؤمّن فيها إنجاز الأحلام العصيّة.
المشغولون كثيراً بِطينِ الواقع ولُزوجته ومستنقعاته الراكدة لا يُعنونَ بعالم التأمّل ولا يعيرونه أهميّة تُذكَر، ليكون على الدوام من حصّة الفيلسوف والفنان والعالم والمخترع والموهوب والعاشق والمجنون حيث ينفق نصف أوقاته في التأمّل، فالوجود يعني الحضور الحيّ الفاعل والمُنتِج في الأشياء ولا يفرض هذا النوع من الوجود إلّا مزيداً من التأمّل.