بقلم:فاروق يوسف
لم تكن قمة تونس قمة للحد الأدنى من الاتفاق العربي، ولم يكن في قراراتها نوع من التردد أو التحفظ إزاء أي من المسائل المصيرية التي ناقشتها. كان كل شيء واضحا وبأعلى ما يتطلبه من قول صريح.لقد أُعد لها إعدادا جيدا. ولم يبذل الجانب التونسي جهدا علنيا كبيرا في التقريب بين وجهات النظر التي بدت كما لو أنها تنهل من النبع نفسه. الأمن القومي الذي بات هاجسا للجميع بعد أن تم اختراقه إيرانيا.وإذا ما كانت القمم السابقة قد تخللت بياناتها جمل إنشائية مرسلة، فإن بيان القمة الأخيرة كان سياسيا بطريقة خالصة ومركزة، فكانت قراراته لا تصف الحالة بل تدعو إلى القيام بالفعل اللازم لمعالجتها.ذلك لا يتعلق بحجم التحديات التي تواجهها الأمة، بقدر ما يعبر عن نضوج في فهم شبكة العلاقات السياسية الدولية المعقدة التي تسيطر على القنوات التي تمر من خلالها تلك التحديات. وهو ما لم يكن العرب، للأسف، قادرين على التفاعل معه في الماضي بسبب غلبة اللغة العقائدية التي لم تكن قادرة على استيعاب متغيرات السياسة الدولية، ولم تكن تُولي المصالح أي درجة من الاهتمام. لذلك خسر العرب معاركهم بيسر وهي المعارك نفسها التي ربحها أعداؤهم بيسر أيضا.
اليوم تبدو لغة العرب السياسية أكثر وضوحا وأشد اقتضابا بما يجعل فهمها أمرا ميسرا لمن يرغب في التعرف على الكيفية التي يسعى من خلالها العرب للحفاظ على أمنهم القومي، من غير أن تخالط ذلك الهدف أي رغبة في تهديد أمن الآخرين.لقد أشار البيان إلى إيران والإرهاب، كونهما طرفي معادلة متكاملة ينبغي مواجهتها والعمل على حذفها من ميزان القوى في المنطقة. وهو ما يجب أن يكون ملزما للجميع، سواء مَن يملك علاقات جيدة بالنظام الإيراني، أو مَن لم يكن كذلك. فالفكرة لا تنطوي على نظرة معادية لإيران، بقدر ما تطرح على الطاولة الخطر الذي تشكله سياسات إيران التوسعية في المنطقة.وكما أرى فإن الموقف العربي الموحد من الخطر الإيراني إنما يشكل قاعدة لتفاهمات عربية في إمكانها أن تضع حدا للتنازلات التي تقدمها بعض الدول لإيران خوفاً من ميليشياتها التي أتيحت لها الفرصة للتمدد عبر سنوات من الكسل العربي.
دعت القمة ضمنيا إلى تصحيح تلك الأوضاع الخاطئة. وهو ما سيشكل خارطة طريق في المرحلة القادمة. فلم يعد من المقبول أن تستمر الفوضى في ليبيا وسوريا واليمن. وهو ما سيدفع بدول عربية كبرى إلى أن تسترد دورها في معالجة الأوضاع في تلك الدول، بما يضمن سلامة الأمن القومي.قد يراهن البعض ممن في قلوبهم مرض على أن قرارات قمة تونس لن تكون سوى حبر على ورق. وهو رهان يعبر عن غباء في قراءة متغيرات النظام السياسي العربي القائم على هاجس الرغبة الحقيقية في التحول المبني على رؤية تقوم على مبدأ اللحاق بالعصر.في ظل تلك المتغيرات لم يعد النظام السياسي العربي خائفا من المواجهة. فهو مطمئن إلى أن أسلحته في الصراع كفيلة بأن تجعله قادرا على الحفاظ على مكتسباته في التحديث والتقدم وبناء المجتمعات الحرة التي تعتز بحريتها وكرامتها انطلاقا من مبدأ المواطنة.من المهم هنا أن أشير إلى أن قمة تونس كانت بمثابة الخط الفاصل الذي وع نهاية لفوضى ما سمي بـ”الربيع العربي”. ففي قراراتها وبالأخص ما يتعلق منها بالجانب الاقتصادي إشارات مهمة إلى السعي في اتجاه تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية التي من شأنها أن تقضي على مشكلات الفقر في أجزاء كثيرة من العالم العربي.هي قمة ليست كالقمم التي سبقتها. ذلك لأنها سمت الأشياء بأسمائها وتبنت مسؤولية العمل من أجل التغيير.