لا ننكر التدخل الإيراني العسكري والأمني والاقتصادي والثقافي في العراق، ولا ننفي أنه ألحق أضرارا كبيرة باللُّحمة الوطنية العراقية، وتسبب، مباشرة أو من وراء ستار، في توسيع وتعميق وتدوير فساد الطبقة الحاكمة، وانهيار الخدمات، وتدهور الحياة المدنية والأمنية والصحية والاقتصادية والثقافية والتعليمية، إلى حد غير قليل.
ولكن المتعمق في دراسة حقيقة وجود النفوذ الإيراني في العراق، وحدوده، بحياد ومنهجية علمية صادقة، بعد خمس عشرة سنة من التسلل والتغلغل والانتشار، يؤكد أن الجراح التي أحدثها ذلك النفوذ ما زالت، ويمكن أن تبقى، جراحا سطحية خارجية لم ولن تنفذ إلى ما وراء الجلد، ولم ولن تصل إلى أعماق المجتمع العراقي المنيع.
ولإثبات ذلك علينا أن نتتبع حدود وجود الإيرانيين ووكلائهم العراقيين، بكل أنواعه،وباختلاف درجات خطورته وأساليبه وأدواته، في جميع المناطق العراقية، خصوصا في محافظات الوسط والجنوب المتهمة، تعسفا وتهديا، بأنها إيرانية الولاء، لنكتشفأنه، ولحد الآن، محصور في أجهزة الحكومة ومؤسساتها، وبالتحديد في أوساط الوزراء والسفراء والمدراء والقضاة والنواب والمحافظين وقادة الأمن والجيش، وفي شرائح (شعبية) محدودة معزولة ربطت نفسها بالوجود الإيراني إما بسبب جهلها، أو انتهازيتها، أو حاجتها إلى مصدر ارتزاق، أو بدافع طائفيتها المتعصبة المتخلفة، وأن ذلك الوجود لم يستطع أن ينفذ إلى أعماق المجتمع العراقي وثوابته القائمة على الاستقلالية المتوارثة الثابتة التي تبغض العنجهية الفارسية، وترفض وصاية الإيرانيين العسكريين والمدنيين، وتعبر عن تعلقها بالحرية والاستقلال كل يوم وكل ساعة، وبأسلوب أو آخر، وبعلمانية عفوية لم تستطع جيوش جرارة من المحتلين والغزاة، وقرونٌ من التقلبات المناخية السياسية، أن تنال منها، أو تحدث تغييرا حقيقيا يطال فيها الجذور.
فما زالت الأوساط الشعبية الشيعية العراقية، بوجهٍ خاص، لا تنظر بعين الارتياح إلى الطبقة السياسية الحاكمة الموالية لإيران، وتعتبرها نتوءاتٍ ناشزة انتهازية خارجة عن المألوف، وحلالٌ مقاومتُها ومحاصرتها ومعارضتها والعمل على إسقاطها والتخلص من فسادها وعمالتها المستهجَنة، خصوصا في أوساط المثقفين والأجيال الشابة الجديدة المتفتحة المتطلعة إلى حضارة القرن ومكاسبها الإنسانية التي لا تعد ولا تحصى أسوة بما هو قائم في الدول المجاورة، وفي دول العالم الحرة المتقدمة التي تحترم نفسها، وتعمل بجدية ونزاهة ووطنية، من أجل أن تؤمن لمواطنها الحر كامل الحرية والكرامة والرفاه.
ومن يدقق في نشاطات المثقفين العراقيين الشيعة، وإبداعاتهم، وفي تحركات مجمعات الشبيبة وتظاهراتها التي تبدو، في أغلبها، غير سياسية، ومحصورة في المطالبة بتوفير الخدمات المفقودة، ومعالجة البطالة، ومحاربة الفساد، يدرك أن قاع المجتمع العراقي ما زال نقيا لم يتأثر بالوجود الإيراني القادم من كهوف الخرافة والطائفية والتعصب العنصري المقيت، ولم يفقد روح المقاومة المتأصلة فيه، رغم كل الجهود المضنية التي بذلها القادة الإيرانيون ووكلاؤهم العراقيون طيلة السنين الماضية.
أما في المجتمع السني فلا تقل روح المقاومة عما هي عليه في المجتمع الشيعي. فقد بقيت الطبقة السياسية السنية، منذ 2003 وحتى اليوم، منبوذة، مكروهة، موصوفة بالانتهازية والمصلحية والعمالة، إلى الحد الذي لا يأتي ذكر قادة أحزابها إلا مرفوقا بصفة (سنة المالكي) أو (سنة الحكومة)، أو (سنة إيران)، وبكل استهانة واحتقار.
وما زالت الجماهير السنية العريضة تتطلع إلى يوم الخلاص من الوصاية الإيرانية،ومن طبقة السياسيين السنة الطفيليين الذين لا يقلون خطورة على الطائفة من إيران واحتلالها.
كما لا يختلف المجتمع الكوردي العراقي، هو الآخر، كثيرا عن شقيقيْه العراقييْن، الشيعي والسني، خصوصا في نقمته المتصاعدة على الطبقة الحاكمة التي ثبت للشعب الكوردي أنها سلطة فاسدة لا تخدم سوى مصالحها ومصالح وُلاة أمورها الخارجيين.
وفي عملية حسابية عاجلة يمكن تقدير أعداد جميع العراقيين العاملين في خدمة الاحتلال الإيراني، شيعة وسنة وكوردا، بما لا يتعدى، في أقصى حالاته، مليونين من مجمل ملايين الشعب العراقي الستة والثلاثين.
بعبارة أقصر يمكن القول إن هذه الطبقة السياسية الحاكمة وكل من يدور في فلكها ويرتزق من عمالتها لإيران تظل فئة صغيرة لن تستطيع أن تنتصر على شعب كامل متأهب للانقضاض عليها واجتثاثها حين تحين ساعة غضبه التي عودنا على براكينها وزلازلها التي لا يمكن التنبؤ بمواعيدها وقوة اندفاعها. وتاريخُ العراق، من قبل آلاف السنين، شاهدٌ على ذلك، بكل يقين.
أما الوجود الإيراني المقيم في العراق والمتوهم بأنه أكمل إطباق يديه على هذا الوطن الصغير فنحمد الله على أنه ظل، على امتداد خمس عشرة سنة، متوقفا عند جلده وقشرته فقط، وعلى أنه لم يستطع النفاذ إلى قلبه الحر الحصين، وعلى أن رحيله أسهل من رحيل وكلائه المنبوذين المحتقَرين المحاصرين الخائفين المتأهبين ليوم العقاب والحساب، أجمعين.