للترجمة دور مهم في تحريك عجلة المشهد الثقافي العربي، فمن خلالها يتعرّف الباحث العربي على أمهات الكتب العالمية الحديثة والمعاصرة، وبهذا يكون في تماس حثيث مع كلّ ما هو مستجد، مواكبا الفكر الغربي في مدارسه ومناهجه ونظرياته. وعلى الرغم مما تقدّم؛ فإنّ الترجمة قد تغدو سببًا في عدم إعطاء التسميات المعرّبة درجة الاصطلاح الدقيقة. ولقد تركت الحركة الترجمية الهائلة وغير الموحّدة نقدنا العربي ينوء تحت عبء التعدد في التعريب للمصطلح الواحد. والسبب تعدد توجهات من يقومون بالترجمة واختلاف رؤاهم ومستوياتهم، فضلا عن عدم انضوائهم تحت خط ترجمي واحد لغياب تشكيل مؤسساتي رسمي يؤطّر مساعيهم ويوحّد مساراتهم في الترجمة والتعريب.من هنا يغدو مطلب الترجمة المنضبطة مهمًا في عملية تقنين المصطلح العربي الذي يحاول أن يتماس مع حقيقة المصطلح الغربي وبالشكل الذي يجعل الدراسات اللغوية أو النقدية او الفلسفية لا تتباين في توظيف المصطلحات، كما لا تتهاون في اعتماد ضابط معياري يحدد تعريبها.
ولم يسهم انشاء مراكز ترجمية مثل دار المأمون للترجمة والمنظمة العربية للترجمة والمركز القومي للترجمة وغيرها من تخفيف حدّة هذه الإشكالية، وظلت الحركة الترجمية عندنا بحاجة ماسة إلى وضع آليات تضبط التعريب للصياغات الاصطلاحية المترجمة، معتمدة سياقات عمل واضحة في اجرائياتها، ودقيقة في الكيفية التي يتم عبرها انتقاء الكتب وترجمتها بعلمية وبتخصصية عالية، وتحت إشراف نقاد ضليعين باللغات المترجم عنها كأن تكون انجيلزية أو فرنسية أو المانية أو روسية أو اسبانية وغيرها، والمترجم المشرف هو المراجع الذي له باعه المشهود في هذا الميدان، لتظهر الترجمة منشورة تحت إشرافه، كطريق من طرق عدة باتجاه تحقيق التوحيد والاتقان في عملية تداول المصطلحات.
وبعض النقاد العرب حاول وضع معاجم أدبية متخصصة في التدليل على المصطلحات وبيان مدلولاتها مثل دليل الناقد الأدبي لنبيل راغب وسعد البازعي ومعجم المصطلحات الأدبية لإبراهيم فتحي ومعجم المصطلحات الادبية المعاصرة لسعيد علوش؛ لكن الذي يؤخذ على هذه المعاجم أنها لم تتمكن من إحصاء جميع المصطلحات الأدبية، ناهيك عن الافتقار الى التدليل الشامل على فحوى الاصطلاح.
فمثلا يقف ابراهيم فتحي عند مصطلح (متشاعر) فيكتفي بوصفه هكذا، (شاعر ضئيل القدر لا يعدو أن يكون ناظما هاويا ضيق الافق والتعبير يستمد لاحقته أو مقطعه الأخير المضاف من كلمة لاتينية تعني كل ما يقف عند محاكاة القردة لشيء حقيقي أو كل ما يشبه شيئا حقيقيا بطريقة ناقصة بعيدة عن الاكتمال) أما مصطلح (الدرامي) فيعرّفه كالآتي: (الوسائل المستخدمة في التمثيلية كبدائل للواقع)، ومعلوم أن المصطلح وسيلة ترتبط بالشكل والمضمون، ولا يكفي الاقتصار على واحد منهما في توضيح الدلالة المقصودة.الامر الذي يتطلب التنسيق بين جهود المختصّين من علماء اللغات والأصوات والمترجمين والمعربين والخبراء في ميادين علمية مختلفة أو عبر التعاون مع جهات ومنظمات أو مؤسسات لها علاقةٌ بما سبق.
وكان الناقد فاضل ثامر قد شخّص ما تركته الترجمة من إشكاليات على نقدنا المعاصر وأولى اهتمامًا خاصا للمصطلح السردي الحديث، كما لاحظ اشتباك المصطلحات في مجال المناهج النقدية نفسها من ذلك مثلا مصطلح مقاربة mythology وapproach فهاتان المفردتان تتلاقيان في الدلالة على (منهج ودراسة ومنهجية)
واقترح لفضّ إشكالية المصطلح السردي إعداد أنموذج لمعجم مصغّر للمصطلحات السردية والنقدية ثنائي اللغة (ويمكن أن يوسّع ليتضمن شرحًا وتحديدًا مركزًا للمفاهيم النقدية الواردة فيه عبر جهد جماعي أوسع) ولا خلاف أن التوحيد في تعريب المصطلح العربي سينعكس على المستوى النظري للنقد العربي، وقد يوصل إلى بوادر تبشّر بصنع نظرية عربية في النقد.
وعموما تظلّ الترجمة واحدة من إشكاليات كثيرة تتصل بمسألة التقنين في التعريب ورهان الإجادة في الاصطلاح النقدي عربيا سواء من الناحية الظاهرية التي تتصل بصناعة المصطلح بعيدا عن السائبية وتماشيا صوب الاصطلاحية أو من الناحية الماقبليّة المتعلقة بالمهيئات التي تسمح للمفهوم أن يخرج من حيز التسطّح والتعميم ليدخل في حيز التعمّق والتحديد.
وبعض المصطلحات تأتي مقنّنة بحيث أن الترجمة قد لا تتفاوت كثيرا في تعريبها بسبب نضجها النظري والفلسفي أولا ولتوفر الوعي العالي بها عند الناقد العربي ثانيًا. وهذا ما يعطيها الاستقرار والثبات. ومن ذلك مصطلحات نظرية الأدب والمعادل الموضوعي والشعرية والحوارية وتعدد اللغات ولذة النص ولذة القراءة والسيميولوجيا والسوسيونصيّة والمكان والخطاب والدال والمدلول وفسيفساء النص والتمثيل والجنسانية والتفكيك والهيمنة.. الخ.
بمعنى أن البراعة في الترجمة لا تقتصر على طول باع المترجم في اللغتين التي يترجم منها والتي يترجم إليها، إنما في دقة اصطلاحات المادة النقدية نفسها في لغتها الأصل، فالدكتور عبد الجابر المطلبي ينقل عن الناقد روثفن استعماله كلمة العالم في جملة (الشاعر صانع لعالم ثانٍ) التي يراها مع دقتها نابية في اللغة الانكليزية لكن ليس من بديل آخر يرضي تمامًا، فيقرر روثفن قائلا: “بالرغم من غموض مصطلح العالم فإنّ مجازه جذاب” (قضايا في النقد الادبي، ص14 )
هكذا تغدو المصطلحات معضلة لغوية حتى عند الغربيين، ومن ثمّ تحتاج عملية ضبطها إلى أنظمة وتصاميم تجعلها معبّرة عن صلب الظاهرة الأدبية أو النقدية المنبثقة عنها. ولا بدَّ ونحن نتطلّع إلى توحيد المصطلح العربي من وجود نظرية نقديّة تمكّن الناقد من أن يعي كيف ينتقي المصطلحات التي يستعملها، والمفاهيم المعرفيّة التي يعوّل عليها في التعريب مما يتلاءم والمادة المترجمة. وهذا ما تقتضيه العملية النقدية المستندة الى جهاز اصطلاحي موحّد أو متفق عليه لا تختلط فيه المفاهيم والأوصاف كما لا تتداخل الإجراءات ولا تتضارب العمليات. ويظلّ التطلّع مشرعًا نحو إنشاء مشاريع ترجمية مرتبطة بهيأت ومراكز تعريب لغوية وبحثيّة في مختلف البلدان العربية. وهو ما سيؤدي إلى الاضطلاع بأدوار فاعلة باتجاه التوحيد في تقنين المصطلحات وصناعتها على وفق مجالات التخصص النقدي واللغوي والفلسفي؛ بيد أن ذلك يظل مجرد تطلعٍ، قد يكون الوقت مبكرًا على طرحه في خضم انقسام عربي تتعدد سياساته وتتباعد غاياته.