ما قرأته اليوم من أن مؤتمرًا للفلسفة سيعقد في أحدى جامعتنا العراقية، شيء يبعث على الفرح والدهشة، من أن جامعتنا، أو بعض الأستاذة المتميزين فيها يفكرون بالفلسفة، وأن المجتمع بحاجة إليها، وبغض النظر عن عنوانات الحلقات الدراسية التي ستستمر على مدى يومين من هذا الشهر، وهي مفردات غنية، أشعر بالغبطة عندما نفكر، مجرد تفكير، بأهمية الفلسفة خارج الاهتمام الأكاديمي الذي وضعت الفلسفة فيه كجزء من محصلة التعليم، وليست جزءا من محصلة تطوير المجتمع وحلقاته العلمية والثقافية. ومع ذلك، أعتبر هذه المساهمة، كما هي حاصلة في العام الماضي، من أننا عندما نفكر بالفلسفة، نفكر بمزيد من الأسئلة، وبمزيد من الشك فيما نحن فيه، وبمزيد من الحاجة المعرفية للعلم الفلسفي، لأن يكون لدينا من يفكر فلسفيًا بشؤون الفلسفة نفسها.في عالم اليوم، أصبح التفكير فلسفيًا جزءًا من مهمة التنوير وما بعد الحداثة، فهل بإمكاننا أن نفكر كذلك ومجمتعنا لا يملك مقومات التنوير ولا مقومات الحداثة، وفي ظل منظومة تعليمية شبه جامدة محددة على تداولته قدرات أساتذة ومتطلبات دروس؟ أشعر بالغبطة وأنا أتصفح منهاج اليومين اللذين خصصا للفلسفة، ودورها في بنية المجتمع، من أننا نتحرك في أفق المعرفة، لا في أفق السكون والجمود، وأن بلدنا يمكنه أن يفكر أسوة ببلدان العالم من أن أي تقدم، وأي نهوض بلا تفكير فلسفي مجرد هراء لا معنى له.ومع ذلك، قد لا تكون الغبطة متحققة، خاصة وأننا تعودنا أن نغلق كل الأبواب والنوافذ ونطفئ كل الأضواء بعد أن ينتهي المؤتمر، حين استمعنا للبحوث والمناقشات، وكأننا لا نراكم أية معرفة للأيام المقبلة كي يكون لدينا تعامل ميداني مع ما طرح ونوفش وكتب.هذه مهمة كبيرة، فبالقدر الذي نسعى إلى عمل برامج وندوات عن الفلسفة، علينا أن ننشئ فريق عمل يتابع محصلة هذه الحوارات والإمكانية التي ستقوم عليها لاحقًا في ما لو أصبحت موضوعات هذه الحلقات مادة فلسفية يمكنها أن تتطور شأنها شأن ما هو معمول به في العالم، من أن معظم أوليات الدراسات الفلسفية كانت محاضرات، ثم تطورت على يد أصحابها أو تلامذتهم النابهين فطوروا ما فيها وصوبوا ما تحتاجه، فالموضوع الفلسفي من دون غيره كائن يلامس أجزاءً من حياتنا وتغيب عنه أجزاء أخرى، فتكون الحوارات والمتابعات والمناقشات بمثابة الشعلة الدائمة لإنارة الموضوع الأساس وما طرح حوله.الكتب التي نقرأها في الانثروبولويجا والفلسفة والنقد، كانت عبارة عن محاضرات، هنا وهناك، ولكنها أصبحت متونًا عندما وضعت في كتاب، فقد خرجت من دائرة الكلامية المباشرة، إلى دائرة الإجراءات العلمية عندما ثبتت كأطروحات أو أجزاء من الأطروحات، فالكتاب الذي احتواها أصبح أمام مسؤولية أوسع لدى القراء من مختلف الاختصاصات، بينما كانت أوليات هذا الكتاب محاضرات وحوارات، زيد عليها، ونقص منها، وصوبت بعض فقراتها، وأُلغيت أخرى، لذلك ما نريده من هذه الندوات أن يمتد حضورها الثقافي، وأن لا تقتصر حيثياتها على مدى اليومين ثم ينطفئ بريقها كمصابيح القاعة، مهمتها الأساسية أن تكون خارج القاعات، ومن خلال فريق عمل نشط يحاور ما ينقصها، ويكمل ما فقد منها. عندئذ يكون الأستاذ المحاضر حاضرًا في أزمنة وأمكنة تداول مادته الفلسفية وليس وجوده مقتصرًا على مدى ساعات الجلسات ودقائق الموجزات والحوارات.نعم، نحن لا غيرنا بحاجة لأن نتشبع بهواء الفلسفة التي لا يستغني عنها كل كاتب أو شاعر أو مثقف، ومن دون وجود جذور للتفلسف في أي نص أدبي لا أعتبر ذلك النص جديرًا بالقراءة.