آخر تحديث:
بقلم:علي الكاش
في مقال نشره الأستاذ الجليل ضرغام الدباغ بعنوان ( ثورة تشرين شقيقة ثورة العشرين) تحدث عن مقاربة بين الثورتين، وهذه المقاربة تدخلنا في دوامة من التناقضات، على الرغم من ان البعض يعتبر ثورة العشرين أهم ثورة في تأريخ العراق الحديث، وهي على أهميتها لكن عليها الكثير من المآخذ، وقد تغاضى الكثير من الكتاب عما تضمنته من سلبيات، في محاولة لتجنب المساس بها كنوع من المقدس، وهذا ديدن العراقيين، حيث إن مفهوم المقدس عندهم ينتابه الكثير من الغموض والتشابك، مع انه لا يصح مطلقا على أقل تقدير من الناحية الشرعية. إن التحليل العلمي للوقائع يتطلب النظر الى الثورة من جميع الزوايا، وليس من زاوية واحدة، وهذه المشكلة لا تتعلق بثورة العشرين فحسب، بل معظم الثورات قديما وحديثا. الأحداث التأريخية تحتاج الى إعادة نظر بإعتماد أساليب البحث العلمي، بعيدا عن العواطف والأهواء والميول الدينية والقومية والمذهبية والعشائرية، ربما يمتعض البعض من وضع ثورة العشرين تحت المجهر، معتبرا إنها ثورة متكاملة، مع إنها تفتقر الى ابرز مقومات الثورة المعروفة والمتفق عليها من قبل المفكرين والمنظرين في علم السياسة، ربما هي أقرب للإنتفاضة الشعبية منه الى مفهوم الثورة.
لا أظن ان هذه المقاربة صحيحة، مع احترامي الشديد للأستاذ ضرغام الدباغ، وهو كاتب مبدع، ولا يفوتني مقال يكتبه، وله تأريخ سياسي مجيد لا يخفى عن أحد، وتراجم على جانب كبير من الأهمية. واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، بل هو يحفز على المزيد من البحث والإستقراء، والتعمق في الدراسة، والإتيان بما هو جديد. ربما المقاربات تتخلص بأن الثورتين إجتاحتا العراق من شماله الى جنوبه، ومن شرقه الى غربه، وكلتاهما قدمتا تضحيات بشرية، وكلتاهما طالبتا بإنهاء الإحتلال المباشر (الإحتلال البريطاني)، وغير المباشر (الإحتلالين الامريكي والايراني)، وكلتاهما تميزت بعد التكافؤ من حيث القوة العسكرية بين الثوار من جهة والقوة المقابلة من جهة أخرى، وكلتاهما وحدتا الشعب العراقي، وكلتاهما لم تتمكن من تحقيق أهدافها (على اقل تقدير لحد الآن بالنسبة لثورة تشرين)، ومقاربات أخرى ليست ذات أهمية كبيرة.
ثورة العشرين عليها مؤشرات سلبية على الرغم من تعظيمها من قبل البعض دون التعمق في دراستها، فزعماء العشائر ومراجع الدين الشيعة، لم يكن دافعهم وطنيا للقيام بها، الكثير من الكتاب والمؤرخين حاولوا التغطية على حقيقة ما حدث، ولو رجعنا الى ما كتبه إسحق نقاش وعلي الوردي ومذكرات بعض المندوبين الساميين الانكليز لتبين لنا بوضوح ان ثورة تشرين المباركة أسمى بكثير من ثورة العشرين. ذكر اسحق نقاش” من اسباب دعم المراجع الدينية لثورة العشرين هو قيام بريطانيا بتنظيم تدفق التبرعات الخيرية للعتبات المقدسة وتحديد عدد الزوار، وكذلك نقل الاموات من ايران الى النجف، ومحاولة السيطرة على مصادر الدخل للمجتهدين، لذلك كان للسادة العرب والمجتهدين الفرس مصلحة مشتركة في تحريض العشائر على الثورة ضد البريطانيين لأجل المحافظة على مواقعهم وامتيازاتهم”. أي لم يكن هناك إيمان حقيقي بالثورة على الإستعمار وتخليص العراق منه، وما يسمى بتحقيق السيادة والإستقلال.
خلال الاحتلال البريطاني للعراق قام سادن الروضة العلوية في النجف (هادي الرفيعي) بتنظيم مذكرة تحمل توقيع (21) من كبار الشخصيات المؤثرة في النجف يطالبون بإبقاء الحكم البريطاني المباشر. كما أيد (6) مجتهدين في النجف بقاء القوات البريطانية حتى تثبت البلاد قدرتها على ادارة البلاد. على ان تكفل بريطانيا حرية ممارسة الشرائع الاسلامية وإمتيازات المجتهدين. وكان من بين المجتهدين (3) هنود موالين لبريطانيا هم: (هاشم الهندي النجفي)، و(محمود الهندي النجفي)، و(محمد مهدي الكشميري) ومجتهد فارسي واحد هو (جعفر بحر العلوم). وهو من المؤيدين لبريطانيا! اما المجاهدين الآخرين فهما (حسن صاحب الجواهري) وهو عربي الأصل يحمل الجنسية الايرانية، و(علي محمد رضا كاشف الغطاء). (للمزيد راجع لمحات اجتماعية لعلي الوردي).
هذه التوجهات الدينية والعشائرية صارت أكثر وضوحا بعد حدوث ثورة العشرين. ذكرإسحق نقاش بأنه ” منذ سنة 1923 بدأ الشيعة يعبرون عن رأيهم بأفضلية ان يكونوا تحت السيطرة الكاملة للبريطانيين على ان يكونوا تحت حكومة سنية”. ومنذ عام 1920 طلب وزير الخارجية الايراني من الحكومة البريطانية تفويض الشاه بتعيين كبار المسئولين في العتبات المقدسة في كربلاء والنجف. وفي عام 1925 ربطت ايران اعترافها بالعراق بأن تتولى هي حماية العتبات المقدسة. وبعد ان فشلت في ذلك اشرطت بعدم تدخل الحكومة العراقية في إدارة العتبات المقدسة الا بعد الرجوع الى المجتهدين واخذ موافقتهم بذلك. بالطبع المجتهدون الكبار كانوا من الأعاجم أيضا؟
الأمر الخطير الآخر هو ما كشف عنه الكاتب (مكرديح) حول علاقة بريطانيا بفقهاء إيران وإمكانية إستفادة المستعمرين من أموال الحوزات خلال جلسة سرية جرت في السفارة البريطانية في طهران بتأريخ11/10/1914 بحضور اللورد ويورد بقوله” هناك أقوى جهاز متنفذ في إيران ونحن نثق به، إنه طبقة رجال الدين الشيعة، ومن حسن الحظ أن هذا الجهاز لنا، وما يزال لنا، لنا أصدقاء جيدون وقريبون لنا، ويمكن لهذه الطبقة أن تؤمن لنا الأموال كلما لزم الأمر، ويمكن أن تؤثر حتى على البلاط وجيش القوى الأخرى، ويمكن أن تحمل سلاح المذهب والجهاد وما شاكل. المهم هو أنهم لايتوقعون الكثير منا، وكلما لزم الأمر سندخلهم الى الميدان وعندما نشاء يمكننا إعادتهم الى بيوتهم ومساكنهم”. (أسرار وعوامل سقوط إيران). ومنذ ذلك الحين ولحد الآن هناك الكثير من التنسيق بين الدول الكبرى وفقهاء الشيعة، لم يماط اللثام إلا على القليل منها.
سنتوقف عند المحطات التالية، وربما نتوسع فيها ببحث قادم، ففي جعبتنا الكثير من المعلومات حول ما يسمى بثورة العشرين وإمتداداتها العشائرية لحد الآن، علم ان أحفاد زعماء العشائر قلبوا ظهر المجن خلال ثورة تشرين المباركة، وكانوا إسوة سيئة لأجدادهم، وهذا ما يقال عن المراجع الدينية.
-
ثورة تشرين الأول قلبت المعادلات رأسا على عقب، فرجال الدين الشيعة المتمثلين بمرجعية النجف وشيوخ أهل السنة من سنة المالكي (خالد الملة والصميدعي والهميم ومن لف ٌ لفهم من الأمعات)، لم يكن لهم موقفا إيجابيا من الثورة، ولم يفتِ المرجع الأعلى علي السيستاني فتوى تحرم سفك دماء الأبرياء، ولم نسمع من مراجع الدين السنة أي تصريح حول دعم الثوار. وكان رجال الدين الشيعة، سيما خطباء المنبر الحسيني قد اساءوا إساءة بالغة للثوار، ولطخوا سمعتهم بإتهامات باطلة، بل وصل الأمر ببعض الخطباء الدجالين والسفهاء،، ممن فقدوا الشرف والضمير والدين، الطعن بشرف الماجدات المتظاهرات، واتهموا الشباب باللواط، لكن كما يقال كل إناء ينضح بما فيه.
-
كان لزعماء العشائر دور مخزِ من ثورة تشرين المباركة، فقد إجتمع عدد كبير منهم مع رئيس الوزراء المخلوع (عادل عبد المهدي) وعاهدوه على منع أبناء عشائرهم من المشاركة بالثورة، بعد أن تسلموا منه اكرامية (5) مليون دينار، اي إشترى ذممهم بهذا الثمن الرخيص، وعند عودتهم إستقبلهم عدد من الثوار بالإهانات والتحقير، ورفع المتظاهرون هتاف” اليوم الكذلة التلعب، خلي عقالك للدكات)، تعبيرا عن السخرية من زعماء العشائر، بل أن زعماء بعض العشائر تخلوا عن الثوار بطريقة تدعو الى السخرية، فقد خرج علينا شيخ من عشائر طي إدعى انه يحمل راية الجهاد، وانه مخول برفعها في حال التعرض الى الثوار، ولم نسمع عنه ولا عن راية الجهاد شيئا بعد ان دفع الثوار ما يقارب الألف شهيدا، وخمسة وعشرن ألف جريحا ومعوقا. لقد فشل زعماء العشائر في حماية أبناء عشائرهم، فهم يحضروا جلسات الفصل العشائري على قتل بقرة أو حمار، ويتخموا معداتهم الخاوية والمبرمجة مع الذبائح، لكنهم لم يفصلوا على دماء شهدائهم، لقد صار العِقال العشائري والعمامة الدينية رمزا للخزي والعار والفساد والمحسوبية وبيع وشراء الذمم.
-
لم تقم بـ (ثورة العشرين) النخب المثقفة والواعية من الشعب العراقي، كما هو الحال في ثورة تشرين المباركة، فقد كان الجهل والأمية يعصفان بالعراق من شماله الى جنوبه، والنزعة العشائرية تغلب على النزعة الوطنية، على العكس من ثورة تشرين المباركة، فقد كانت مساهمة الشباب الواعي والمثقف من طلبة الكليات والمعاهد والمدارس مساهمة كبيرة جدا، وكانوا بحق أيقونة الثورة. و النساء المجاهدات شعلة الحرية بكل فخر وإعتزاز.
-
كانت النوازع العشائرية هي التي أوقدت شرارة الثورة، وليس النوازع الوطنية، ولو رجعنا الى بداية (ثورة العشرين) سوف لا نجد أي من مقومات الثورة، كما هو متعارف عليه في ثورات العالم كالثورة الفرنسية والبلشيفية وغيرها من الثورات التحررية. فلم تكن هناك قيادة واضحة لثورة العشرين، ولا مباديء وأفكار وخطوات مرسومة ذات معالم للسير بموجبها خلال الثورة وبعدها. ولم يكن هناك تنظيما وتخطيطا لها، بل سادت الفوضى، ولم يكن المجتمع العراقي مهيأ أصلا للقيام بثورة من النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. ولم يكن هناك مفكرين رسموا للثورة معالمها. بمعنى ان الثورة تشترط الفكر والتخطيط والتنظيم والوعي والقيادة والحاضنة الشعبية الموحدة، وكلها لا تتوفر في ثورة العشرين.
-
كان شيوخ العشائر ورجال الدين هم قادة (ثورة العشرين) ومعظم المشاركين فيها من الشيوخ ورجال الدين الرجال والمسنين، في حين تميزت ثورة تشرين بأنها ثورة الشباب بحق. فغالبية ثوار تشرين من الفئات العمرية ما بين (15 ـ 30) عاما، وهذا لا يعني انها خلت من بقية الفئات العمرية صعودا او نزولا، لكنها ثورة الشباب بحق.
-
لم يكن للعنصر النسوي في ثورة العشرين إلا دورا ضئيلا لا قيمة له من الناحية السياسية، ربما افرز بعض الشاعرات،في حين تميزت ثورة تشرين المباركة بمساهمة نسوية كبيرة جدا، بل يمكن القول ان الطابع النسوي كان مساويا للطابع الذكوري، وكُسرت حواجز التفرقة بين الجنسين، وكلاهما أبدع في عطائه وتميز به. وكل ساهم بفنه وشعره وغنائه ورسمه، بل صاحبت الثورة عمليات تنظيف الشوارع وتزيينها وإضائتها وصبغ الأرصفة وإقامة معارض كتب وغيرها من الفعاليات والنشاطات الرياضية والفنية.
-
هناك أختلاف في أسباب الثورتين، فثورة العشرين كانت ضد الإحتلال الأنكليزي وتنصله من وعوده، في حين كان هناك سببين لثورة تشرين المباركة:
اولهما: العامل الداخلي: يتمثل في القضاء على المحاصصة الطائفية، وحصر السلاح بيد الدولة، ومحاسبة الفاسدين، واطلاق سراح المعتقلين من قبل اجهزة الدولة والميليشيات الولائية، والقضاء على البطالة والفقر والرشاوي والتزوير، وحل البرلمان السيء الصيت، والقيام بإنتخابات مبكرة من قبل مفوضية مستقلة حقيقة وغير خاضعة للأحزاب الحاكمة، وإنهاء تسيس القضاء.
ثانيهما. الهدف الخارجي يتمثل بإنهاء النفوذين الامريكي والايراني في العراق وتحكمهما بشؤونه الداخلية، وإنتهاك سيادته.
-
لا توجد مقاربة ما بين الضحايا في كلا الثورتين، بالطبع لم تكن هناك إحصائيات دقيقة فيما يتعلق بضحايا ثورة العشرين من العراقيين، لكن بعض المصادر قدرتها بحدود (6000 ـ 8000) عراقي، و(500) بريطاني وجندي من الهنود. في حين بلغ عدد شهداء ثورة تشرين المباركة (1000) شهيدا، واكثر من (25000) جريحا من ضمنهم (3000) معوقا.
-
لم تَستهدف ثوار العشرين قوات عسكرية عراقية اوميليشيات تابعة لدولة أجنبية، كما حصل في ثورة تشرين المباركة، علاوة على عمليات الإغتيال والإختطاف لناشطين رجالا ونساءا، واعتقالات طالت اكثر من (20000) ثائرا دون مذكرات قضائية. لقد وقفت السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ووسائل الاعلام المحلية جميعها ضد ثورة تشرين المباركة.
-
لقد فشلت ثورة العشرين بسبب إفتقارها الى مقومات الثورة الرئيسة من قيادة موحدة وتنظيم وتخطيط، علاوة على عدم التكافؤ بين قوة الانكليز من جهة والعراقيين من جهة أخرى، كذلك بسبب نوعية وكفاءة الأسلحة والأعتدة، وتدخل سلاح الجو البريطاني، وجهل الثوار بطرق الحرب النظامية واسباب أخرى. أما ثورة تشرين فلا يمكن الحكم عليها بعد، على الرغم من الإخفاقات التي لازمتها لظروف داخلية وخارجية، وربما تسنح الفرصة ثانية للإستمرار وتحقيق نجاحات من خلال إدامة الزخم والدعم الجماهيري.
-
كانت ثورة العشرين ثورة مسلحة، اما ثورة تشرين المباركة فقد كانت ومازالت ملتزمة بسلميتها على الرغم من اساليب القمع والارهاب التي استخدمتها القوات الحكومية والميليشيات الولائية ضدها. صحيح ان تكاليف السلمية كانت باهضة، ولكن تبقى صفة السلمية كعلامة إيجابية لصالح الثوار، ولو على الصعيد العالمي.
-
لم تتدخل القوة الأقليمية في ثورة العشرين سلبا او ايجابا، اما في ثورة تشرين المباركة، فقد كان للنظام الايراني البغيض، والميليشيات الولائية التابعة له دورا رئيسا في محاولة إجهاضها، علاوة على تجاهل الدول العربية للثورة وتضحياتها سيما في وسائل الاعلام. يضاف الى ذلك الموقف الامريكي الباهت من الثورة، وهذا أمر طبيعي على إعتبار ان الغزاة هم رعاة العملية السياسية الحالية، ولا يرغبون ان توجه لهم اصابع الإتهام بالفشل. كذلك ضعف الموقف الأممي المتمثل بالأمم المتحدة، والذي لا يرتقِ الى مستوى الإنتهاكات المريعة التي تعرض لها الثوار السلميين. ومن المعروف ان كافة ممثلي الأمم المتحدة في العراق يتسلمون رشاوي وهدايا من الحكومة العراقية، ولديهم محاباة معها، ولم يعد هذا سرا، بل يمكن إستنتاجه من خلال التقارير غير المنصفة التي يرفعونها الى مجلس الأمن.