بحكم خبرتي الإعلامية وخلال عملي الماضي أجريت حوارات ساخنة في أحرج المراحل السياسية والامنية مع جميع السياسيين العراقيين الأساسيين،من بداية التغيير حتى اليوم، وكنت قد حاورت بعضهم ايام المعارضة أي قبل الحرب والاحتلال وسقوط النظام السابق، وكانت لي وقفات معهم في ظروفهم المختلفة ، حاورتُ صغاراً كبروا وكباراً أبعدوا ، مدنيين وعسكريين وشخصيات تتبدل لغاتهم وميولهم حسب بوصلة الانتساب السياسي أو حسب الأحداث وتبعاتها ، تجدهم عام 2006 يختلفون تماما عن عام 2010 ثم يعودون مختلفين 2014 تجدهم خارج السلطة ليسوا كما هم بعد ركوب قطارها، وهكذا. ..مؤشرات كثيرة خرجتُ بها من هذا التنوع وتلك التقلبات عبر حوارات مفتوحة في مجالات السياسة والتوافق والأمن والقضاء والاقتصاد والإنتخابات ومايتصل بتشكيل مجلس الحكم وكتابة الدستور والفيدرالية والاقاليم واختيار علم البلاد والتفجيرات الإرهابية وأزمات تشكيل الحكومة و عقد اتفاقيات دولية وغير ذلك الكثير ، وكما هو معروف كانت الآمال بداية التغيير في أعلى مستوياتها ثم بدأت بالتضاؤل تدريجيا مع ازدياد التحديات وأبرزها الإرهاب والفساد واقصاء المجتمع وخلط الاوراق الذي حول شخصيات هامشية الى صناع قرار سياسي ، وشخصيات كانت تبحث عن عمل ترتزق منه فتصعد بسرعة البرق الى نادي الاموال وحياة الثراء ، سلوكيات اعلامية ومؤسسات مدنية تغيرت كثيرا ، ومثقفون واكاديميون فوجئ العراقيون بطائفيتهم المفرطة مع دخولهم العمل السياسي ، وقصص لاحصر لها سنأتي عليها يوما في تفاصيل أكثر سعة وشمولية خلال تلك الفترة القصيرة من الزمن التي لم يشهد عراق مابعد 2003 فيها دولة واحدة حسْبْ، بل دولٌ عدة بمقومات ومراكز نفوذ تختلف عن بعضها كلّ أربع أو خمس سنوات .
لكن ما أودُّ ايرادَه اليوم هنا، واحدة من أشدّ الظواهر شيوعا وخطورة في العمل السياسي، ذلك هو المستوى الهابط للخصومة السياسية الذي يرهق المجتمع بآلياتها الدعائية الشرسة ، حيث يصوّر الخصمُ السياسي ، فاسدا قاتلا خائنا خطرا على البلاد وشعبها، تجهز له التهم والادلة وشهود الزور وربما يعتقل ويعترف تحت التعذيب ، وقد يخرج على الشاشات التلفزيونية وهو يؤدي سيناريو كشف الدلالة عما ارتكب من جرائم !!! بحيث يتشبع المجتمع وشبابه بالحقد على هذا المجرم ويطالب بالقصاص منه . وفجأة ومع أي متغير خفي يصبحُ كل ماجرى شبيهاً بالكاميرا الخفية ، ويخرج ممثل كشف الدلالة ليشارك في الانتخابات ويعلن القضاء براءته بل ويدخل شريكا في الحياة السياسية يجلس مع اتهموه وجلدوه وجيّشوا الباطل والحق معاً للبطش به واعدام حياته ومستقبله .
من المسؤول عن وضع الجماهير في هذا الموضع المتوتر ، ومن المسؤول عن خذلانهم بعد دفعهم الى التشنج والكراهية ؟
هل ان كل ما أعدّ من التهم نذالة وفقدان ضمير واتهام الناس بماليس فيها؟ ، ام ان ذلك عمى مصالح يجعلهم يقبلون العدو صديقا وكأنّ شيئاً لم يكنْ؟!.
شخصيا لم أصدق يوما أية تهمة تساق في ظل التنافس السياسي والمستنقع الطائفي ، لان كل ماجرى ويجري من 2003 هو رد فعل على فعل ..اذا حملتَ السلاح أحمِلْه ايضا ، اذا اخترقتَ الدولة واهنتها اخترقْها أنا واهينها ، اذا سرقتَ اسرقْ واذا قتلتَ اقتل ، ثقافة الاطراف المختلفة كلها هذه جعلت البلاد في طاحونة من الدماء والضياع . وفي خضم ذلك كله ،ظلمت كفاءات وخُذل شركاء وتسلل حاقدون وغرباء . ولعل من هذه الكفاءات الدكتور رافع العيساوي الذي أعرفه من خطابه قبل اجتثاثه من معسكر الموالاة الى معسكر المعاداة، شخصية مخلصة ايجابية وقفت مع المسؤولين الشيعة جميعهم في احلك الظروف ، وقد صمتنا جميعا حين تُرك الرجلُ يواجه تهماُ وادلة واسلوب الادانة المذكور اعلاه ، صمتَ الجميع بعد أنْ ادخل موضوع العيساوي في معادلة التخوين العراقية المعتادة ..لكن عودته كما عاد من قبله ومن يعود من بعده تفتح ملف الظلم والعدالة ، والازدواجية السياسية التي تحكم بلادنا . اليوم بَرّء القضاء العراقي السيد العيساوي واسقط التهم الموجهة له بشان الارهاب، وغيّر شهود الزور أقوالهم حسب بيان القضاء وثبت أن جميع الاعترافات التي اخذت من افراد حماية العيساوي كانت بالاكراه، من خلال زيارة ذوي المعتقلين على حد تصريح للسيد رئيس مجلس النواب ، فيما لعبت رئاسة الدولة دورا محوريا في عودة الرجل ، ومؤكد ان ذلك بموافقة رئيس الوزراء ورئيس السطة القضائية ، اي أن الرئاسات الأربع والسلطات الأربع ترعى ذلك مهما تحدث المتحدثون . فكيف يواجه الخصوم الذين ضغطوا على القضاء كي يُدينه والهبوا حماسَ المجتمع ضده ؟ الا يسائلهم المجتمع ، ( اتهمتموه وهجّرتموه وارجعتموه وبرأتموه ) ، لابد وان تكون احدى الحالتين ظلما .
القصد من هذه الاشارة ليس الحصول على اجابة في بلد لا اجابة على سؤال منطقي فيه ، ولا أريد سوق المزيد من الأمثلة ، لكن الدرس الكبير الذي نخرج منه . هو ضرورة اعادة النظر في المستوى الهابط الذي يرافق الخصومة السياسية ، وتفعيل الخلاف المحترف واللغة الرفيعة وحفظ كرامة المنافس والغريم .في أعلى درجات النزاع ، لان الدنيا تدور والمواقف تتغير وليس من صالح الجميع تثقفيف الناس ضد خصومهم بهذه القسوة التي يستدركها القضاء ويكشف عورها وسوء اجراءتها ، لكن المجتمع لن ينساها وتظل صدمة نفسية تحتاج الكثير للصحوة منها ، يستثنى من ذلك من ارتكب جرائم فعلية ضد العراقيين ، لأنّ الجريمة ليست رأياً سياسيا يحتمل الجدل ، انها ظلم ، والظلم ليس وجهة نظر.