هناك حكاية قديمة تقول إنَّ أحد الملوك قد زار بيت رجل فقير من أجل أن يطّلع على الرعية، وقال لصاحب البيت (ما الذي ينقص بيتك؟) ولأن صاحب الدار كان عفيف النفس وقويّ الإرادة، أجابه بجملة كانت عصيّة الفهم لمعظم الحاضرين (بيتي تنقصه الفئران مولاي!) تعجبت حاشية الملك من هذا الجواب غير المنطقي حسب تفكيرهم طبعاً، أجابه الملك: (سأجعل الفئران تمرح وتسرح وتتكاثر في بيتك).
عندما عاد إلى القصر أخبر حاشيته بأنّ صاحب الدار يشكو الفاقة والعدمَ وعادةً الفئران لا تتواجد في مكان معدم! شاعرنا جبار الكوّاز من الشعراء الذين يعيشون مع الشعب مباشرة وهمّهما واحد ويشخص الأخطاء التي تضرّهم ويضع لها حلولاً منطقية مقبولة مثلما فعل الشاعر الفرنسي رامبو أمام أخطاء وتصرفات عائلة لويس، كواز قال بالحرف الواحد وبكل صراحة هل تنتظرون من الذبابة وهي نجسة ان تصنع لنا عسلاً؟ لا لا مطلقاً، اللبيب لا يفعل هذا. وكتب هذا بأسلوب رائع جداً، وأضاف عليه أن مفتاح الباب مسروق لا نهر ولا نجاة بنا إلّا الصمود والمقاومة من أجل الأمل والعثور على مفتاح الحرية، (لا فئرانَ في بيوتِ الفقراءِ لا عسلَ في خليةِ الذبابِ لا نهرَ وراءَ الابوابِ فمَن سرقَ المفتاحَ؟!)…..
هل أصبحنا معتوهين ووصل بنا الحال إلى درجة بحيث نقايض الغالي بالرخيص كما فعل اليهود مع نبي الله موسى عندما طلبوا منه القثاء والثوم مقابل المن والسلوى؟ يبدو ذلك، طبعًا كواز يشير إلى البعض وهم القلّة فعلوا هذا حقاً أمام مسمع ومرأى الآخرين من دون رادع أو خجل فنجدهم تارة يبيعون الخيط والإبرة (تستعمل في الرتق) مقابل رتق ثوبهم البالي ويثقبون سفينتهم التي هي وسيلة نجاتهم ويجففون البحر خوفا من الفيضانات ويكممون صرختهم لكي لا يعلنوا عن حلمهم الميت أصلاً! تصرفات رعناء غير مسؤولة اوصلتنا إلى ما نحن عليه الآن فعلاً، أحسن الكواز في وصف أعمالهم اللاعقلانية التي تضر أنفسهم والآخرين ومن المؤكد أنهم مستفيدون منها حسب تصرفاتهم غير الخافية عن الملأ، أمّا في نصه الآخر فنجد فيه نوعا آخر من الكسل والتعجيز فصاحبنا رسم الشمس ليتدفأ!
والشمس سهلة المنال جداً، وقلّدُه الآخر بأنْ رسم ناراً ليأخذ منها قبساً عكس ذلك النبي الذي صعد الجبل من أجل أنْ يحصل على قبسِ منها، شتان بينهما! وهكذا تتراكم علينا الأخطاء إلى أن يأتي يوماً نضرب الأخماس في الأسداس ونعلن بأننا غير جديرين بالحياة إطلاقاً. (وَهُمُ كَمَنْ رسمَ ناراً ليقبسَ منها، كَمَن رسمَ شمساً ليتدفأَ، كَمن ثقبَ سفينةً ليجفّف نهراً، كَمَن كمّمَ صرخةً ليوئدَ حلماً). في نصه الآخر نجد القوة والأمل فأم الشهيد تتحدى الموت بالحياة فتحتفل بعيد ميلاد فقيدها في قبره لتعلن ان الشهداء باقون في ضمير الشرفاء وهم الأحياء ويستحقون أنْ نحتفل بهم ومعهم ونسيانهم جريمة بحق دمهم الطاهر الذي سيطّهرنا من النجس المنتشر حولنا بكثافة وكأنه ضباب رمادي يأبى الانقشاع ولكنه سينقشع يوما ما أمام قوة تلك المرأة المغلوبة على أمرها. (نكايةً بالموتِ الأمهاتُ في المقابرِ يحتفلنَ بأعيادِ ميلادِ الشهداء).
الحائك يحيك لنا كل شيء، حتى المؤامرات الدنيئة من عمل يديه، يسأله الكواز لماذا كل هذا؟ لماذا تسيطر علينا؟ لماذا لاتحيك لنا شيئاً جميلاً؟ طبعاً لايفعلون هذا لأنهم حائكو الفراغ بالتأكيد فهم يحيكون (الأحلام، البرق، السعادة، الغيم، الماء، الكلمات، الغفلة)، وها هو حائك الغفلة مازال يحاول إغفالهم عن رؤية الحقيقة ويوجههم إلى الطاعة العمياء (حائك الغفلةِ ظل رغم صحوة مريدهِ خاتلاً في سلّة قمامتهم وهم يهتفون له لبيك… لبيك). هناك يبرز لنا دور حاكي السعادة وهو يحاول ان يحيك لنا ولو جزءاً نزيراً من السعادة ويفرح حقاً عندما يرى العشاق ويحزن كثيراً عندما يرى الضحايا نتيجة الاطلاقات التي تقتل حائك السعادة قبل الضحية، (حائك السعادة سعيد وهو يرى العشاق يجمعون احلامهم وينتجون ملائكة بلا احتفالات ولا إطلاقات نارية للاضاحي). شاعرنا تطرق إلى موضوع مهم جداً يخص حياتنا جميعاً بعد أن رأى بأم عينيه أناسا يحوّلون الأسود إلى الأبيض والأبيض إلى الأسود ويضعون زيداً بدل عمر والعكس صحيح أيضاً، وقد تطرق قبله الشاعر التركماني الكبير الراحل علي معروف إلى هذا الموضوع عندما قال في احدى قصائده (جلَّ خوفي من انْ يسجنونني مع السرّاق ويكيدون لي تهمة السرقة بدلاً من تهمة النضال من أجل قوميتي)، شاعرنا كواز كتبَ ذلك بكل شفافية ومن دون رتوش كما يفعل البعض من اجل حمايتهم من الوشاة ووجه تهمة واضحة إلى السيئين الذين يجعلون أنفسهم ملائكة أمام الآخرين ولكن تصرفاتهم لا تمر مرور الكرام على شاعر حاذق وذكي يحمل هموم المواطن الفقير والكادح والمسحوق، (كَذبَ السوادُ حينَ ظنّ نفسَه ابيضَ. الاصباغُ كثيرةُ الادعاءِ أمامَ فرشاةِ الوشاياتِ).
الشاعر جبار الكواز يتمتع بقابلية شعرية عالية وجلية يستطيع تعريف موضوع ما بعدة كلمات متراصة ذات معان عميقة وتحليلها ليس صعباً لدرجة يجعل القارئ يبتعد منها والأصح هي ليست (لافتة قصيرة) سهلة المنال بل تعطي الحرية كاملةً للقارئ ليحورها إلى شيء قد يكون منفذه الصغير إلى الهواء الطلق ومتنفساً لهمومه التي لا تنتهي، شاعرنا فضلا عن كونه شاعراً مرموقاً فهو تربوي قدير ويملك عقلية إدارية وأفكاراً تطويرية وتنموية لا تقل أهميتها عن الشعر في دفة قيادة اتحاد أدباء العراق والمحافظات مع زملائه الكرام، ننتظر المزيد منه.