ترتبط الفارزة والعلامات الأخرى بمهمة اعلان البياض الفاصل بين معنيين، حتى لو كانا منبثقين عن الشيء نفسه. فالبياض بينهما يفرضه المعنى، لذلك لا بد من صمت صوتي بين معنيين، الفارزة تملأ هذا البياض، لأنه حقلها الخاص. وللتدقيق في دورها التأويلي، هي لا تفصل بين شيء تكون أجزاؤه محتوية فيه، بل تفصل بين معنيين للشيء، ومعنى الشيء لا يكون شيئًا، فلو تعاملت في النص مع مفردة “عجين” “طين” “خميرة” “ماء”، “هواء”، أو”تراب”، فكل جزئية من هذه المكونات تحمل خصائصها الكلية، القطرة: ماءً، والبحر: ماءً، الطين الأرضي طينًا مائيًّا، وقطعة الطين في يد النحات طينًا معجونًا بالماء، نار الموقد نارًا، ونار البراكين نارًا،… الخ، وعندما تستخدم الفارزة بين قطرة الماء والبحر، بين الأرض والنحات، بين الموقد والبركان…الخ، يقتصر دور الفارزة على العزل بين أشكال الماء، الطين، النار، الهواء، التراب، وليس بين تراب وتراب، أو ماء وماء، أو نار ونار، أوهواء وهواء…الخ. ماذا نستنتج من ذلك؟، نستنتج أن الشيء الذي لايتجزأ معناه حتى لو تجزأت أشكاله يبقى دون فارزة، “ولكن إذا مزقت كتابًا فلن يحتفظ بعد حين بصفته السابقة “كتاب” بل يصبح مجموعة من الأوراق الممزقة”، “مجموعة مؤلفين، الزمان والمكان اليوم، ص 189 ، فالكتاب ليس شيئًا كليانيًا، بل هو مجموعة من خلائط مادية مختلفة، عندئذ يصبح للفارزة دور فاصل بين مسافتي شكلين للكتاب، ولا يصبح لها دور بين محتوى الكتاب.
سقت هذا المثال المثير للجدل، لأبيّن أن المسافة لاتُفرض على الأشياء، بل تنبع من الحاجة لوجود بياض صامت بين تحولاتها.عندما بدأنا بالكتابة ونحن شبابًا، لم نعِ دور النقاط والفوارز والفراغات في نهايات الجملة ووسط العبارة، ولكن بمرور الوقت، وتراكم الخبرة على تنظيم المعرفة، شعرنا بأهمية أن نضع مسافة بين الجمل والعبارات بما يلائم معانيها، الفارزة (الشولة)، لها في الّلغة عشرة مواضع، وللفواصل ثلاثة عشر موضعًا.( )، تقرب بين المعاني المتجاورة أوالممتدة، تستجيب إلى التقطيعات النفسية والمعنوية، بينما تكون النقاط حدودًا بين معنيين للفكرة متناميين، يفيدان التجاور، وهكذا بقية العلامات التي تفيد مواقع ما في بنية النَّص. لقد أصبحت النقاط والفوارز، مفكرًا بها، وجزءًا من بنية العمل المُنظم، فالذات تبحث عن نفسها في العالم ضمن تنظيم ما تكتبه، هذه المفردات الكتابية جزء من بنية النفس التأليفية، وليست جزءًا من محتوى النَّص فقط، بالرَّغم من أن ارتباطها بالشكل كتنظيم بنيوي. بمعنى أن وجودها يرسم مسافات محددة بين المعاني، بينما إلغاؤها يعني فوضى المعنى. “حذفت النقاط المتتابعة… بين العبارات، لأنَّها تفتح المجال لفرضيات لا طائل منها” انعام كجه جي 3-5-20. موقع في الانترنت”، لذلك غالبًا ما يكون إدراك المسافة بين الجمل مبهمة لا يتحقق تنظيمها إلا في المسافات المرتبطة بالمعنى. ومن العلامات الكتابية، يتسع المدى لمعنى العلامة التجارية والهوياتية والتاريخية، فتصبح لوغوات الشركات علامة دالة على هويتها، وتصبح للملكية الفكرية علاماتها، وللحروف علم خاص بها يسمى علم طباعة الحروف، وهو على أربع عشرة علامة، وهناك مما يسمى”مقسم الكلام” وثمة علامات العملة النقدية بحدود أربع وثلاثين علامة، وهكذا فالفواصل التي تُحدثها الفارزة في حياتنا اليوميَّة لا تحدد بمجال واحد، إذ نجدها تشمل معظم مفاصل أفعالنا اليومية لتعزل بين الأكل والعمل والنوم ومشاهدة مباريات كرة واستقبال صديق وكتابة قصيدة حب، فالفارزة ثيمة اجتماعية تفصل وتوصل، لها ما للشارحة وعلامة الاستفهام والتعجب وللقوسين وغيرها. وهكذا تتحول الفارزة – كمفهوم عام للعلامات- إلى بنية تشييدية لما نعمل في حياتنا اليوميَّة. وعندما تتحول الفارزة بمفهومها الشامل إلى بنية إجرائية، نجدها تدخل في تركيبة المسافات: تُلغى في المسافة الحميمية، في التحام جسدين، وتحتفظ في المسافة الشخصية بمسافة مابينية يمكن سماع الكلام فيها بوضوح، وتصبح في المسافة الاِجتماعية هوية لصوت الجماعة وتنظيمًا للعلاقات فيما بينهم، في حين تتغير أطوالها وأبعادها ومواقعها في المسافة الجماهيرية العامة.وإذا شئنا المزحة يكون بعض الناس مجرد فوارز في مجموعات لاينتمون إليها إلا لمصلحة ما، وجلّ هؤلاء نجدهم يتسيدون اليوم حياتنا الثقافية ومؤسساتها، من دون أن ينتجوا أية معرفة ثقافية تميزهم.