في حياتي داخل العراق لم أكن ذلك الموجود البعيد عن الشاعر وسام هاشم الذي قرأت له أول ما قرأت ديوانه (سهول في قفص) الذي صدر في سنة 1993 وكانت القصائد فيه منشورة هنا وهناك وكنّا في قراءة لها وكلانا سيغادر العراق إلى خارجه، لكن تجربة الشعر ما تغيرت فهي الهمس في ذواتنا وفي كينونتنا وفي العالم؛ فأنا قارئ للشعر ووسام كاتب فيه (شاعر) حتى صدر ديوانه الخامس له بالمنفى تحت عنوان (نصوص الحياة… قُبلة في زحام المترو) سنة 2018 عن دار الدراويش في “بلغاريا”، ولعل ملفوظ “مترو” دالة على مناطقيّة المكان فليس لدينا بالعراق مترو، والملاحظ أن عنوان هذا الديوان سيلحق به عنوان فرعي هو “نصوص الحياة” وتلك هي المسألة في تجربته الشعرية!
الغديّة
في مطلع الديوان يتطرّق الشاعر إلى مسألة مصيره بعد الموت فيقول في عتبة له تبدو حساسة في تجربة هذا الديوان:
“صديقي المخرج.. الفيلم الذي ستصنعه عن حياتي
سيكون عن قطرة ماء تسقط من شجرة إلى ماء.. وينتهي..”.
وهنا تمارس الغديّة (Future) إمكانها عبر اللعب على الزمن مثلما يقول: “آخر أغنياتي في علبة الشاي على رفّ بغداد”، ومن ثم “آخر آبائي أختبأ في سلّة آخر أبنائي”؛ فهو الشاعر الذي ترك في بغداد كل لمسات الشاعر الأصيل وليس العابر..، فهو هنا يستعيدها ويتكرّر هذا المعنى تالياً في الأب الذي سيتجلى في الابن فلا مهرب من كينونة الأنا مهما شتّتها المصائر فلا ولن تغيب في دياجير الهروب بكل أشكاله، فهو الذي يعترف بأنه من السلالات العجيبة بل هو:
“من ظهرَ نخلة وبطن أسى تركض في براري ناحلة”…
وذلك هو الأصل البيولوجي للشاعر. ولا ينفصل الشاعر عن قارئه فالمصير واحد ليلوح في تجربته الشعرية لذلك نراه يقول:
“هكذا أثرثُر مع كل شيء حولي ومعك، في محاولة لجر أقدامك إلى نهر عذاباتنا معًا”.
فالشاعر غير منفصل عن قارئه أبدا، فكلاهما سواء في بحور العذاب بالحياة.
وبالعودة إلى تعبير “نصوص الحياة” سنجد الشاعر يفتح حواراً مع قارئه فيقول له:
“انظر من نافذتك..، سترى ببساطة أن يومكَ هذا يستحق أكثر من قراءتي”.
نافذة القارئ
وهنا ثمّة معطيات في غاية الأهمية فيدعوه إلى أن ينظر من نافذته إلى الحياة، وتعبر ملفوظة “أن يومك” عن الحياة التي فيها أكثر من قراءتها بوصفها قصيدة، فالإنسان المثالي هو المزارع الذي توجد في حقيبته صور عن المعركة والخبز أيضاً وكلاهما ديدن الحياة اليومية في كل براريها، وهنا لا يريد وسام الخروج عن الحياة في نمطها العربي في ثلاثيّتها العراقية؛ المزرعة والخبز والمعركة، ونرى الشاعر يتحدّث عن “مقبرة سنواته” سنواته الشعرية وحياته في الشعر بما هي التي يعيشها في المنفى الذي اصطفاه لنفسه، لكنه وفي صميم ذلك يفتح خيوط الأسئلة فـ
“متى يعود أبي من موته
وأخي من شظيّة فوق عنه
وأنا من هروبي الناجح ومنفاي الفاشل؟”.
إنها الأسئلة التي تعذّبه لكونها أسئلة وجود وكل عراقي ذاق مرارة ما جرى له في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي والمتمثلة في الموت والجراح والهروب والجوع إلى خارج الوطن وكلّها جرّبها الشاعر في حياته، ولكنه بقي يكتب الشعر بلا تردّد ليبكي وجوده؛ ففي القصيدة يطلب منّا أن نذهب إلى “القبلة مباشرة ولا تتركها أسفل الورقة”، وهي في قصيدته الموجعة “إلى القبلة مباشرة”.
هذا الديون يتضمّن نحو خمسين قصيدة تجد العراق فيها على سطوح القصائد وبين أبيات القصائد وفيها تلميحات لكل من كان يعيش عراق ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ولكل عراقي تجري حياته فيما مضى، والقصيدة لدى وسام هاشم تعبّر عن عذابات الذات والكينونة العراقية فيما عاشت وتعذّبت وبكت حدّ النعي ويستنطق وسام هاشم مكنونات ما جرى بلا ملل ولا تردّد ليقف عند حدود الوجود حراً طليقاً ليقول العراق بحميمية في كل بكائه وعويله وصراخه المدوي.