تأثير المجاميع و الميليشيات الارهابية على التنمية في العراق
آخر تحديث:
بقلم:علي صادق الميالي
مقدمة:
تعرف الميليشيات بأنها قوة عسكرية شبه نظامية، افرادها من القوى الشعبية المدنية، قد تتخذ لها نظاما اداريا داخليا، وتتبع لرجل الميليشيا، تستخدم السلاح التقليدي لتحقيق مصالح خاصة لافرادها وقياداتها، او لتحقيق اهداف سياسية او قومية او طائفية.
تنبثق الميليشيات في اي دولة من دول العالم لعدة عوامل كالحروب التي تدفع بعض الانظمة لتسليح المدنيين لغرض الدفاع عن النظام وتكون الميليشيات في هذه الحالة تابعة للدولة ويتم حلها عند انتهاء اسبابها الموضوعية، كإنشاء ميليشيات الجيش الشعبي خلال الحرب العراقية الايرانية، او عند غياب القانون وسط المنعطفات التاريخية الحرجة كالاحتلال وما شابه، او قد تنبثق الميليشيا من حركات التحرر الوطني المناهظة للانظمة الشمولية كما هو الحال في دول العالم الثالث.
أيضاً، قد يهدف تأسيس الميليشيا الى تحقيق نفوذ اجتماعي ومكاسب اقتصادية وسياسية، وفي دولة ضعيفة كالعراق، وشعب تسيطر عليه الافكار الدينية، كان تأسيس جماعة مسلحة تجعلك فوق القانون امرا سهلا ومغريا الى حد كبير، تأسست الكثير من هذه الجماعات بعد 2003، بعناوين كثيرة، ولاسباب معلنة متشابهة، كحماية الدين او طرد المحتلين وما الى ذلك من عناوينَ لم تتجاوز كَونها غطاءً يمكن هذه الميليشيات من تحقيق اهدافها الاساسية، النفوذ والمال والسلطة، اذ عملت هذه الجماعات على تقويض الدولة ونفوذها من خلال وضع عناصر هذه الميليشيات في المناطق الحساسة في الدولة كالمطارات والمنافذ الحدودية والاجهزة الامنية والاستخبارية كما سيأتي بيانه لاحقاً.
نبذة تاريخية:
إن مشكلة وجود السلاح خارج سيطرة الدولة، هي مشكلة قديمة بقدم الدولة العراقية نفسها، ففي العام 1933 اشتكى الملك فيصل الاول من ان قبائل العراق تمتلك ما يقارب المئة الف بندقية، في حين لم تكن الحكومة تملك سوى خمسة عشر الف منها، بيد ان اكتشاف النفط في العراق وزيادة عائدات الثروة النفطية اسهمت بشكل كبير في عكس هذا التفاوت الى صالح الحكومة في نهاية المطاف.
بعد اعلان الجمهورية العراقية، كانت البداية سيئة للغاية بتأسيس عبد الكريم قاسم ميليشيا مسلحة حملت أسم “المقاومة الشعبية”، بعد فترة قصيرة من تسلمه السلطة، وتحديدا في 1 آب/اغسطس 1958، استطاع الحزب الشيوعي بعد ذلك، ان يهيمن بشكل كامل على “المقاومة الشعبية” خصوصاً بعد فشل انقلاب الشواف في آذار/مارس 1959م، حتى كادت ان تصبح جزءاً من تشكيلات الحزب. تمكن عبد الكريم قاسم في نهاية المطاف من تجريد هذه الميليشيا من سلاحها، فأصبح من السهولة عليه اصدار قراره بحلها، وقام بحلها بالفعل خلال مدة قصيرة.
وعندما نجح البعثيون عام 1963 باسقاط حكم عبد الكريم قاسم، تولى صدام حسين تأسيس ميليشيا “الحرس القومي” التي قادها حزب البعث وكان يهدف من خلالها الى ايجاد تشكيلة شبه عسكرية خاصة به للسيطرة على السلطة من اخلال القتل والتعذيب وكافة الوسائل التي من شأنها ارهاب الناس وارعابهم، وقد وفر لها غطاءً قانونيا، بإصداره قانون الحرس القومي رقم (35) لسنة 1963 بتاريخ 18مايو\أيار 1963. وكان لهذه المليشيا دور كبير في التحكم بالشارع العراقي من خلال ممارساتها الارهابية التي أثارت السخط عند العراقيين، وكانت ذريعة الرئيس عبد السلام عارف في إزاحة حزب البعث من السلطة وحل هذه الميليشيا في حركة 18 تشرين الثاني 1963، وقد عادت بعد رجوع البعث الى السلطة عام 1968 وتحولت الى مديرية الامن العامة التي واصلت عمليات القتل والتعذيب بشكل اكثر دموية من السابق.
وفي ذات الوقت واصلت ميليشيات “البيشمركة” الكردية، والمتمردين الشيعة المدعومين من إيران، مقاومة سلطة الدولة طوال فترة حكم حزب “البعث”، الذي استمر هو الاخر بنهج انشاء الميليشيات للحفاظ على حكمه من الانقلابات العسكرية، ففي العام 1970 انشأ صدام قوات الجيش الشعبي، الذي كان جله من منتسبي أعضاء حزب البعث في بداية تأسيسه، ارتفع عدد أفراده بسرعة فيما بعد، وبحلول عام 1977، كان عدد أعضاءه النشطين يبلغ 50,000 مقاتل، في العام 1987 اقترب الجيش الشعبي من قوام القوات المسلحة النظامية ليبلغ عديده اكثر من نصف مليون منتسب، كان هدف هذه الميليشيا الاساسي هو حماية نظام صدام من اي انقلاب او تمرد عسكري، وقد قام بدور اسناد الجيش العراقي خلال حربه مع ايران 1980-1988.
وعلى الجانب الاخر، تأسس في إيران عام 1982 المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وجناحه العسكري المعروف بـ”فيلق بدر”، ويتألف الفيلق من مجموعة من المقاتلين والجنود الهاربين من الجيش العراقي فروا إلى إيران خلال حرب الخليج الأولى، كان لفيلق بدر دور كبير في انتفاضة آذار شعبان 1991، وشارك ايضاً في الاطاحة بنظام صدام حسين وشارك في مؤتمر المعارضة العراقية الذي عقد في اذار عام 2003 لتشكيل الحكومة العراقية، قرر محمد باقر الحكيم في ختام مؤتمره الأول الذي عقد في مدينة النجف بعد سقوط النظام العراقي 2003 بتحويل فيلق بدر إلى منظمة مدنية معللاً السبب أن دور فيلق بدر قد انتهى عند سقوط نظام صدام حسين.
تأسست في هذه الفترة التي شهدت تخريب الجمهورية العراقية، وحل الجيش النظامي، وغياب القانون، ميليشيات كثيرة اعلنت سعيها لمقاومة الاحتلال، منها شيعية ككتائب كربلاء ولواء زيد بن علي وجيش المهدي، وسنية ككتائب ثورة العشرين والجيش الاسلامي وغيرها.
المتغيرات التي رافقت صعود الميليشيات
رغم ان الدستور العراقي عام 2005 اعتبرها غير نظامية وخارجة عن القانون، استمر الكثير من هذه الميليشيات في ممارسة نشاطاتها، واتخذت اساليب مختلفة للاحتيال على القانون والدستور، فقامت منظمة بدر مثلاً بالانضمام الى قوات الامن الاتحادية بعملية عرفت باسم “الدمج” فنجحت بذلك بادخال عناصرها في وزارة الداخلية والاستحواذ على المناصب المهمة والقيادية في المنظومة الامنية للدولة العراقية، وعلى الجانب الاخر تحولت البيشمركة الى قوات حرس الاقليم بموجب المادة 121 من الدستور، فأصبحت بذلك هذه الميليشيات تحت عنوان يسمح لها بالحصول على تمويل من الدولة، واستغلال نفوذها للتحرك بحرية مع احتفاظها باستقلاليتها عن الدولة وسياساتها وقد اعلنت عن هذا التوجه غير مرة.
يمكن ان نصف اقليم كردستان بعد 2003 بأنه “دولة” داخل العراق، يتمتع بكل مؤسسات الدولة العسكرية، والأمنية، والتنفيذية، والتشريعية، ولا يلتزم بالدستور العراقي، الذي جعل السياسة الخارجية والثروات والمنافذ الحدودية من اختصاصات الحكومة الاتحادية، بينما يتمتع الاقليم باستقلالية في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، ويقوم باستخراج النفط وتصديره بشكل غير قانوني، كما ويسيطر على المنافذ الحدودية ويضع سياستها الامنية والكمركية، بدون علم أو اشراف الحكومة الاتحادية، وبسبب الفساد وسوء الادارة، غالبا ما تذهب هذه الموارد في جيوب العائلات الحاكمة في الاقليم، التي عملت على انشاء نظام يسمح لها باثراء نفسها، اما الشخص العادي في الاقليم فإنه يستفيد بشكل هامشي من هذه الايرادات او لا يستفيد على الاطلاق.
في الحادي عشر من شهر يونيو عام 2014 سقطت الموصل بعد مواجهات بين قوات الجيش العراقي من جهة وبين تنظيم (داعش) من جهة اخرى، اظهرت الانجازات السريعة لتنظيم الدولة الاسلامية في السيطرة على الموصل ومن بعدها الرمادي، مدى هشاشة القوات العراقية النظامية، وعدم انضباطها وافتقارها للتدريب، فقد تبعثرت بسرعة ولاذت بالفرار. ووفق بعض الإحصاءات، فإن 300 ألف من العسكريين المسجّلين في قوائم قوات الأمن العراقية، أي نحو 30-40 في المئة من إجمالي القوات، كانوا وهميين ولم ينخرطوا البتة في الخدمة الفعلية.
دخلت الميليشيات الشيعية غير الدُولتية على الخط لملء الفراغ، في ذات الوقت، اصدر المرجع الاعلى للشيعة فتوى الجهاد الكفائي التي دعا فيها من يستطيع حمل السلاح الى الانخراط في صفوف القوات الامنية الرسمية، استُغلت هذهِ الفتوى من إيران واجنحتها السياسية لتوسيع نفوذها بصورة كبيرة في المشهد العراقي، كانت إيران أول دولة تعهدت بتقديم المساعدات العسكرية للعراق لمحاربة تنظيم داعش، كما أرسلت وحدة قوات خاصة من الحرس الثوري الإيراني، وهي فيلق القدس، للمساعدة على تنظيم وتجهيز وتدريب الميليشيات الشيعية التي باتت تُعرَف بـ”قوات الحشد الشعبي”.
خلال فترة الحرب وبعد اعلان الانتصار على داعش في 10 يوليو 2017، اصبح للميليشيات الولائية التابعة لإيران نفوذا راسخا في العراق، يتولى قادة هذه الميليشيات المناصب العليا في هيئة الحشد الشعبي، بينما تلعب الاطراف الاخرى المنضوية تحت هذه الهيئة كقوات العتبات او الفصائل السنية والاقليات دوراً هامشيا ولا يسمح لها بالمشاركة في اتخاذ القرارات المهمة، ولا تحصل على نفس الدعم الذي تحصل عليه الفصائل الولائية، ففي 31 كانون الأول/ديسمبر عام 2014 عقد ابو مهدي المهندس، المقرب من إيران، مؤتمره الاول بصفته نائباً للرئيس الاسمي لقوات الحشد الشعبي، فالح الفياض، وهو إسلامي خاضع، وانتهازي، يحدد وجهته السياسية وفقا لمصالحه الخاصة، ولا يبدو بأنه يمارس دورا قياديا او يملك سيطرة فعلية على الارض.
أشكال وأنواع تدخل الميليشيات في دورة الاقتصاد العراقي
لا يتوقف تأثير الميليشيات المسلحة والمجاميع الارهابية عند الوضع الامني والسياسي فحسب، بل يتجاوز تاثيرها ليشمل الجوانب النفسية للفرد العراقي، والبيئة والمجتمع بشكل عام، إن وجود هذه الميليشيات يشكل خطرا كبيرا على المجتمع العراقي فيؤدي الى جعل مجموعة مسلحة من المجتمع تنظر الى المدنيين باحتقار واستصغار وتمارس بحقهم مختلف انواع الجرائم، كارغامهم على دفع الاموال بغير وجه حق، التجاوز على ممتلكاتهم ومصادرتها خلافا للقانون، ممارسة عمليات النهب والخطف والابتزاز، ممارسة القتل بدوافع مختلفة، وتهديد الامن المجتمعي من خلال تجارة المخدرات واستهداف الناتج المحلي وغير ذلك، ولكننا سنقتصر هذا البحث على تأثير هذه الميليشيات على الجوانب الاقتصادية.
كما هو معلوم فإن زعماء الميليشيات لهم تمثيل كبير في اجهزة الدولة الرسمية، ازداد هذا النفوذ بشكل كبير بعد انتخابات عام 2018، التي شاركوا فيها خلافا لقانون الاحزاب السياسية الذي يحظر على الحزب تشكيل مجاميع عسكرية او شبه عسكرية، وشهدت هذه الانتخابات ايضا عمليات تزوير، وعمليات ترهيب للناخبين من قبل جماعات مسلحة، مما أدى الى صعود مرشحي هذه الجماعات الى البرلمان بشكل غير مسبوق، فقد حصل تحالف صادقون لقيس الخزعلي على 16 مقعد في انتخابات 2018 مقارنة بمقعد واحد في انتخابات 2014، تمكنت بذلك هذه الميليشيات من تعزيز مواقعها في الحكومة ومؤسساتها، فكونت شبكات تسيطر على وظائف الحكومة المهمة، كما عملت على استمالة السطلة القضائية لمصلحتها، لضمان الإفلات من العقوبات القانونية، وأضفت المشروعية على أنشطتها الفاسدة من خلال استصدار تشريعات محددة من السلطة التشريعية، تخدم مصالحها. يمكن تلخيص أشكال وأنواع تدخل الميليشيات في دورة الاقتصاد العراقي في النقاط الاتيه:
1– مزاد العملة: یقصد بمزاد العملة الأجنبیة ” ذلك الأسلوب الذي یستعمله البنك المركزي العراقي لبیع وشراء الدولار بھدف السیطرة على عرض النقد والسیولة العامة والحد من التضخم وتحقیق الاستقرار في سعر صرف الدینار العراقي والمستوى العام للأسعار. قامت سلطات الاحتلال الأمريكية بتأسيسه عام ٢٠٠٣ لمساعدة البلد في دفع مستحقات الاستيراد بالدولار، ولكن الذي حصل أن مزاد العملة اصبح يقتصر على عدد محدود من المصارف الاهلية المدعومة من الاحزاب السياسية والميليشيات والتي تشتري الدولار من البنك المركزي من خلال شهادات استيراد مزورة أو وصولات مزورة للتحويلات الخارجية، ثم تقوم ببيع الدولار مجددا، ويستند هذا الغش على الفرق الموجود بين سعر الصرف الثابت الذي يوفره البنك المركزي ومعدل السوق المتذبذب الذي عادة ما يكون أعلى بكثير حسب الطلب في السوق المحلية، فقد تصل ارباح هذه المصارف الى 600,000 دولار في اليوم الواحد عند بيعها 10 مليون دولار فقط، إن بعض البنوك التي تحصل على فوائد عالية من المزاد لا تمارس أي عمل، وليس لها أي وجود سوى أنها واجهات لمكاتب صغيرة تحصل على ارباح سهلة تكاد تكون اشبه بطباعة العملة.
2– المطارات والمنافذ الحدودية: وفقاً لهيئة المنافذ الحدودية الرسمية، يمتلك العراق 20 منفذا حدودياً، 11 منفذا برياً، 6 منافذ بحرية، ومطار بغداد، النجف والبصرة، لم تشر الهيئة الى المنافذ التي تسيطر عليها ميليشيات البيشمركة وهي معبر بيشابير، وابراهيم الخليل وهو من اكبر المعابر في العراق وانشطها، معبر الحاج عمران، معبر باشماخ ومعبر بروزنخان، بالاضافة الى مطار اربيل.
ان العائدات المستحصلة من المنافذ الحدودية تشكل ثروة اقتصادية كبيرة ضائعة بسبب ضعف الدولة وسيطرة الميليشيات المسلحة عليها، مما جعلها بوابة للفساد وتزوير البضائع الداخلة والمهربة التي تفتقر الى التدقيق مع المنشأ الأصلي، وجباية إيرادات البلد إلى جيوب الفاسدين.
لجنة الأمن في البرلمان العراقي كانت قد دعت في وقت سابق من العام الماضي الى ابعاد المجاميع المسلحة عن المنافذ وفرض سلطة الدولة عليها، وبالفعل فقد كانت هنالك تحركات للحكومة الجديدة برئاسة مصطفى الكاظمي تهدف الى فرض هيبة الدولة وابعاد الميليشيات عن المنافذ الجنوبية مع ايران، ما أدى الى تضاعف ايرادات هذه المنافذ، وفقا لمصدر مطلع في هيئة المنافذ الحدودية.
3– تهريب النفط الخام ومشتقاته: بحسب مسؤولين محليين في البصرة وبغداد، فإنّ أكثر من 50 ميليشيا وجهة سياسية في العراق تتغذّى مادياً على النفط المهرّب من جنوب العراق، بالإضافة إلى 6 جهات كردية تموّل نفسها أيضاً من النفط العراقي المنهوب في الشمال، مما يؤدي الى فقدان المليارات من الخزينة الاتحادية بفعل تهريبه من قِبل متنفذين في الوزارات والأحزاب، إلى دول أخرى براً من خلال المنافذ الجنوبية والشمالية الى تركيا، والغربية الى الاردن، وبحراً، عبر موانىء البصرة، وقد يتم ارجاعه مرة اخرى الى العراق وبيعه كمستورد باثمان باهضة وفقا لمصادر حكومية.
في 25 أكتوبر 2017 أعلن عضو لجنة النزاهة في مجلس النواب العراقي، أردلان نوري، أن حجم تهريب النفط والمنتجات النفطية خلال خمس سنوات بلغ 90 ملیار دولار.
إن من اهم اسباب اتساع عمليات التهريب واستمرارها، هو ضعف سلطة الدولة في المنافذ، اشتراك مسؤولين في هذه العمليات، وتغاضي القضاء وتراخي الاجراءات القانونية بحق المخالفين والمتجاوزين، فقد ذكر تقرير نشره مكتب المفتش العام في وزارة النفط عام 2006، ان عدد الشاحنات التي ارسلت الى المحافظات الجنوبية من مستودعات البصرة ولم يقم الناقل بايصالها في الفترة بين الاول من ايلول عام 2004 ولغاية منتصف شباط (فبراير) 2005 والتي تم اكتشافها بلغ 1551 شاحنة تحمل 56 مليون لتر من منتجات النفط المستورد حيث بلغت الكلفة الاستيرادية لهذه المنتجات المسوقة والمهربة 28 مليون دولار خلال هذه الفترة.
ويضيف ان قيمة الغرامات التي تم تثبيتها على الناقلين للكميات غير الواصلة هذه 4 ملايين دولار وهي لاتمثل سوى 16% من قيمة تلك المنتجات أي ان الخسارة بلغت 24 مليون دولار، ويؤكد التقرير ان الشركات الناقلة التي تم تغريمها هذا المبلغ لم تقم بدفعه رغم انه بسيط مقارنة مع ماحققته من ارباح طائلة بسبب سرقة تلك المنتجات، وقد تم رفع الامر الى القضاء ولم يبت في الامر برغم مرور ستة اشهر على ذلك. وقد اشار هذا التقرير الى اسباب اخرى لا يتسع المجال لذكرها.
4– الاستغلال غير المشروع لعقارات الدولة: أصبح التجاوز على عقارات الدولة ظاهرة شائعة جداً في العراق، بسبب تنامي قوة المجاميع الخارجة عن القانون، وعجز الحكومة عن تنفيذ القوانين النافذة لمكافحة هذه الظاهرة، وفقاً لمدير عقارات الدولة احمد حسن عبد الله فإن التجاوزات على عقارات الدولة تعد بالالاف، مشيراً الا ان هذه التجاوزات تسببت بتعطيل مئات المشاريع التي من المفترض ان تقام على هذه الاراضي المغصوبة.
في ظل الأزمة المالية التي يمر بها العراق، وانخفاض اسعار النفط، تسيطر الأحزاب والكتل السياسية والمليشيات على مئات العقارات والبنايات والمواقع الاستراتيجية والصناعية والتجارية والخدمية في بغداد وباقي المحافظات، هذا الملف من الممكن ان يكون موردا استراتيجيا للدولة قد يفوق واردات النفط في المستقبل فيما لو اعيدت هذه المواقع الى سلطة الدولة والقانون.
5– الوزارات والعقود الحكومية: يكمن الفساد في الوزارات الحكومية والعقود من خلال اتفاقيات تعقد مسبقا بين الاحزاب والجماعات المسلحة يحصل من خلالها كل منهم على حصته، الصدريون يملكون وزارة الصحة، ومنظمة بدر طالما سيطرت على وزارة الداخلية بينما يسيطر تيار الحكمة على النفط، وكذلك تحصل الاطراف الكردية على وزارات خدمية وسيادية اخرى، ويحصل السنة الموالون لإيران على حصتهم من الوزارات أيضاً.
طرق واشكال الفساد في الوزارات كثيرة، لا ينحصر في اختلاس أموال الدولة عن طريق رصد مبالغ كبيرة لمشاريع لا تستحق وحسب، وإنما في تبديدها بطريقة متعمدة من خلال صرفها على مشاريع غير ضرورية تهدف الى استفادة المتعاقدين على هذه المشاريع ومن يقف خلفهم.
6– الوظائف الحكومية: في يوم 10 يونيو/حزيران 2014 تسبب الفساد في الوظائف الحكومية واختلاس الرواتب من خلال الموظفين الوهميين او ما يعرف بـ”الفضائيين” بسقوط الموصل بيد داعش، كانت هذه الحادثة هزة كبيرة للشعب العراقي، كان ينبغي ان تستثمر لإعادة النظر بالنظام القائم، ولكن بدلا عن ذلك، وبعد أن دعى المرجع الشيعي السيد علي السيستاني “المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح التطوع للانخراط في القوات الأمنية” عرّفت فيما بعد بـ”فتوى الجهاد الكفائي”، استغل السياسيون وقادة الميليشيات هذه الفتوى لتعزيز نفوذ الجماعات المسلحة التابعة لهم، واضفاء الطابع القانوني على تحركاتها، من خلال تأسيس الحشد الشعبي، الذي ساهم بشكل كبير في استعادة المدة وحماية العراق من الإنهيار بفضل هؤلاء المتطوعين، ولكنه بعد ذلك إستُغل كشعار فضفاض تختفي خلفه الميليشيات الخارجة عن القانون ومافيات الفساد.
يبلغ عدد مقاتلي الحشد الشعبي المسجلين لدى الحكومة العراقية حوالي 150,000 مقاتل، يحصل هؤلاء على مخصصات وتمويل من الحكومة العراقية، بدون أن يسمح للحكومة بالتدقيق في اعدادهم كما قال رئيس الوزراء الاسبق حيدر العبادي في مقابلة تلفزيونية، وقال ايضاً أن الاعداد الحقيقة لا تزيد عن 60,000 مقاتل.
7– فرض الضرائب والاتاوات: كما اشرنا في بداية البحث، فإن الميليشيات المسلحة في العراق ترفع شعارات دينية، للتغطية على نشاطاتها التي هي ابعد ما تكون عن مبادئ الدين والاخلاق، فهي مستعدة للدخول في أي مشروع “مربح” يساهم في تمويلها وزيادة نفوذها، ملايين الدولارات تجنيها هذه الميليشيات من فرض الضرائب والاتاوات على الملاهي الليلة وصالات القمار والبارات في بغداد وبعض المحافظات الاخرى، ووفقا لنائب في البرلمان العراقي، فإن الاحزاب وميليشياتها المسلحة تقتسم الواردات فيما بينها مقابل توفير الغطاء والحماية للعاملين في هذا المجال، ولعل اختصاص وزارة الثقافة بإصدار الاجازات لهذه البارات والملاهي هو ما دفع ميليشيات العصائب الى الاصرار على عدم التنازل عن هذه الوزارة.
وكما تتقاسم هذه الميليشيات الصالات والملاهي، تقاسمت مناطق بغداد واسواق الجملة فيها بشكل خاص وفرضت الاتاوات على التجار تحت عناوين التبرع للجهاد او دعم اسر الشهداء او حماية المراقد وما الى ذلك ولكن الذي يرفض الدفع سيجد محله محروقا في اليوم تالي كما تحدث التاجر حسين رافع في حديث مع احدى القنوات التلفزيونية، ما يؤكد ان هذه اتاوات وليست تبرعا كما تدعّي هذه الميليشيات.
وتقوم هذه الميليشيات ايضا بفرض الأتاوات على المواطنين وسائقي الشاحنات من خلال السيطرات الأمنية في المناطق المحررة من داعش، فوفقا لقائممقام الشرقاط علي دودح، فإن هناك سيطرة في جنوب قضاء الشرقاط يسيطر عليها عناصر الحشد الشعبي وهؤلاء يأخذون الأموال من المارة”، مبيناً أن “هذه الأموال المستحصلة ليست تعرفة جمركية بل يمكن تسميتها أتاوات ورشاوى”، واظهرت صور اخرى نشرتها بعض وكالات الانباء طابور طويل من الشاحنات التي تتوقف في السيطرة جراء فرض الحشد الشعبي دفع الأموال على السائقين.
أثر هذا التدخل على الاقتصاد العراقي
إحتل العراق المركز 162 من اصل 180 دولار وفقا لمؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لعام 2019، ليضع العراق في ذيل التصنيف الدولي كأكثر الدول فساد في العالم، ولم تنجح الحكومة العراقية في انتشال العراق من تذيل هذا التصنيف منذ 2003، ما ينذر بكارثة اقتصادية خصوصا مع استمرار انخفاض اسعار النفط والإجراءات الصحية التي رافقت انتشار فايروس كورونا.
وفي وقت سابق من هذا العام، أدرجت المفوضية الأوروبية العراق ضمن القائمة السوداء للدول التي تشكل تهديدا كبيرا على النظام المالي للاتحاد، بسبب “قصور في مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب”. يؤدي إدراج العراق في القائمة الأوربية بحسب مختصين إلى احتمال فرض مزيد من القيود على التحويلات المالية من العراق وإليه، مما سيرفع كلف التحويل وكلف الائتمان وبالتالي يصعب على المستثمرين العراقيين والأوروبيين العمل في البلاد. كما يؤدي استشراء الفساد الى التأثير السلبي على مصداقية السياسية الاقتصادية العراقية ويقوض ثقة المنظمات الدولية عن تقديم الدعم له.
ينتج عن كل ذلك تعطيل للكثير من المشاريع الحيوية والاستثمارية في بغداد والمحافظات الأخرى، وزيادة البطالة وارتفاع نسبة الفقر التي وصلت الى 31% بحسب تصريح وزير التخطيط الحالي خالد بتال، اضافة الى تردي القطاعات الحيوية كالصحة والطاقة والتعليم وهذا يتسبب بتردي نوعية الحياة والى موت الناس في كثير من الاحيان.
مستقبل هذا التدخل
لقد خلقت اموال الفساد طبقة اجتماعية مترفة على حساب عامة ابناء الشعب، وباتت مجموعة صغيرة من السياسيين الفاسدين ورجال الميليشيات تتحكم بمقدرات الملايين من العراقيين وتفرض نفسها عليهم بالقوة، متخذة شكل النظام الديمقراطي كواجهة امام المجتمع الدولي بينما هي تقتل كل من يعارضها وتزور الانتخابات حتى بات اغلب العراقيين يعرفون نتائجها سلفاً. نتج عن ذلك تقويض الثقة بين الشعب والحكومة واضعاف المشاركة الديمقراطية، وخلق حالة من السخط الشعبي المتنامي والذي ادى مؤخراً الى انطلاق تظاهرات تشرين التي تسببت باسقاط حكومة عادل عبد المهدي في 30 نوفمبر 2019.
يواجه رئيس الحكومة الجديد مصطفى الكاظمي تحديات كبيرة، فقد وجد نفسه بمواجهة دولة الفساد العميقة، وميليشيات مسلحة خارجة عن سيطرته تكاد تفوق الجيش بأمكاناتها العسكرية والتدريبية، وخزينة شبه خاوية، ومطالبِ شعبٍ ساخط ينتظر منه اجراءات سريعة لمكافحة الفساد وفرض هيبة وسلطة القانون.
بدأ الكاظمي بالتحرك بشكل جدي على بعض الملفات والاصلاحات التي طالب بها العراقيون والمجتمع الدولي، ولكن تحركاته لم تحقق النتائج المرجوة، فقد حاول فرض هيبة الدولة ومطاردة فصائل الكاتيوشا التي تهدد سيادة العراق ولكن هذا التحرك اعتبر متسرعاً وغير مدروس حسب محللين، فقد جاء بنتائج عكسية واظهر مدى الضعف وانعدام العقيدة العسكرية الوطنية لدى القوات الامنية، تحرك الكاظمي ايضا على ملف المنافذ الحدودية، ورغم انه حقق نجاحا بسيطا في استعادة بعض المنافذ، الا ان معضمها لا يزال خارج سلطة الدولة، وإن اراد الكاظمي تحقيق انجازات حقيقية، أو التحرك على الملفات الكبيرة، فإن ذلك يعني فتح باب المواجهة بينه وبين الاحزاب السياسية وميليشياتها المسلحة، التي تملك نفوذا كبيراً سيمكنها من حسم المواجهة والإطاحة بالكاظمي سريعاً.
لذلك على الحكومة العراقية أن تواصل العمل على قطع مصادر تمويل هذه الميليشيات، من خلال فرض سلطة الدولة على المنافذ الحدودية، منع ومكافحة عمليات تهريب النفط، وتحقيق اصلاحات مصرفية واعتماد تقنيات حديثة للحد من غسيل الاموال، والتشدد في مسألة الرواتب والتدقيق في الموارد البشرية، وأن تعمل على الدمج البطيء للعناصر الموالية للحكومة وعزل المارقين. وفي ذات الوقت على الحكومة ان تعمل على تأمين منشآتها الحيوية، وان تكون جاهزة في حال نشوب قتال طارىء، واسع النطاق مع الميليشيات.
خاتمة
إن للولايات المتحدة الامريكية، يدٌ في كل الخراب والدمار الذي حصل في العراق، ليس لأنها قامت باحتلال العراق وتدمير مؤسساته فقط، بل لأن لها دورا اساسيا في نشوء الفساد واستمراره، ودعم الفاسدين وتوفير الحماية لهم، والتعاون مع الميليشيات عندما تقتضي مصلحتها ذلك. لهذا يتعين على الحكومة العراقية الضغط لاخراج القوات الامريكية القتالية من العراق، لتحقيق امرين: الاول تقليل النفوذ الامريكي والحد من تدخلاته السيئة في الشأن العراقي، والثاني، إنهاء سبب وجود هذه الميليشيات التي تتخذ من مقاومة المحتل ذريعة لشرعنة وجودها.وبذلك يبقى على الحكومة الحالية ان تتحلى بالنفس الطويل في سبيل إنهاء سلطة الميليشيات في العراق، وأن تتجنب قدر المستطاع النزاع المفتوح وقتال الشوارع، وأن تعمل الأن على تأمين انتخابات نزيهة بعيدا عن سلطة السلاح المنفلت، فأن نجحت في ذلك، فستكون تلك خطوة كبيرة للحد من تغلغل هذه الجماعات الارهابية في مؤسسات الدولة.إن اسلوب السياسة الناعمة، والضربات غير المباشرة، لا يمكن أن يستمر الى ما لا نهاية، فسيكون على رئيس الحكومة المقبل، إن سنحت له الفرصة، أن يتحلى بالصبر والشجاعة والثبات، وأن يختار الوقت المناسب ليقدم على بدء المواجهة العسكرية بضرب الرؤوس الفاسدة الكبيرة، ورجال الميليشيات وقادتها، ليقطع بذلك دابرهم، ويشرد به من خلفهم، إذ انه لا يمكن أن يستمر الحال على ماهو عليه، فإما الدولة أو اللادولة.