لما تقوله التجربة قول آخر نقيض أو مخالف لما تقوله نظريات وتفاسير لنا عليها تحفظ، عدم رضا أو رفض. ليكن لنا مثل قريب، نحن في العراق الحديث كما يقال. عشنا ونعيش تجارب فيها الكثير من الهيمنة و التسلط أو التسيّد. معنى هذا سادنا شعور بالدون. ومعناه ايضا إننا بسبب ما كتمنا وما اعلنا، عوقبنا سجناً، تعذيباً، حرماناً، خوفاً.
هذا الثمن ظل يُدفع استجابة لتأسيس آخر أو بسبب طريق آخر رأيناه أصلح من سواه لأهداف يُظن أو يعتقد بأن في وصولها خلاصا. خطأً أو صواباً كانت، اقتنعت فئات من الناس بأن تلك الأهداف تحررهم بل وترفع من شأنهم وترفه عنهم. في الاقل ستزيح عنهم وطأة التسيّد فيرتاحوا، حتى إذا كان تصورهم خطأً، هم رأوه النافع الممكن فارتضوه.
في مجالنا الثقافي لا تبقى البراءة كما أوضحنا . في المجال الثقافي نواجه حالين واضحين هما الموت، او الصمت اكتئاباً، والخيانة. بينهما ثالث هو الوسط الواسع، وهذا مساوم، مخادع أو مراوغ يحاول الكسب والتملص، يحاول الرفض ويسترضي، يحاول الثورة من جهة ويخذلها أو يلتقي بأعدائها من جهة اُخرى، العديد من المثقفين، قُل اكثرهم، في الحقيقة هم في هذه المنطقة الوسطى المزدحمة فضائل وخيانات، كشف عيوب وتسويغ شرور، حماسات للأفضل والرضا بعطف وانمساخ حياة. نحن نعرف واقعنا ونعرف سلوكنا المُعلن والخفي، فلا مجال للحجب والتغطية، لنواجه الحقائق ولنواجه أسبابنا أو ما يضطرنا لذلك.
ما نأسف له جميعا اننا، وراء كل عنفوان الثقافة، نجد « الخضوع» واضحا في الكلمات وفي المواقف، في التعاملات الاجتماعية و في مجابهة القوة المسيطرة. وإن يسبق ذلك استياء ورفض. يحتفظ قلة بصلابتهم، قلة بتعاليم المضاد ويهون او يساوم فيرتضي، أو ينتظر «خيراً»، يبقى المتسلط جاها أو مصدرَ مال أو نفوذ أو قدرة إضرار، وإن لم يكن الخضوع في كل الأحوال، ففي بعضها.
المسألة ليست مسألة قوة وضعف أو ثبات وتراجع أو صدق إيمان وزيف هي مسألة قوة حاكمة متسلطة تملك المال والقرار أو تملك الخبز والسلاح وأنت وانا وغيرنا، يجب ان يأمن وأن يعيش مما «تجود» به هذه المصادر الحاجة مُذلّة ولها علاقة بوجود الفرد حياً ومكتفياً،لا أحد يريد الموت، العمل دائما وبكل الوسائل لاتقائه وللنجاة منه، هنا تراجيديا الانسان وهنا مأساة ودراما أو تراجيكوميديا المثقف.الادعاء بسوى ذلك هو مظهرية لحفظ الكرامة أو هو اعتزاز العاجز المستهدف بما يتمنى! هو عمليا يضطر لأن لا يريد. وهو يساند ويخذل أو يخون، يعتقد بضرورة التمرد، يتوسل عفوا او يستجدي رضا، هذه هي الظروف القاهرة، هذه هي اجواء المأساة.
اما الانشغال الأدبي– وهو تمثيل في جوهره، بكتابات عن اضطهاد، عن ازمنةٍ صعبة أو عصيبة، عن حكام دمويين وما وراءهم من قوى ساندة أو مؤسسات حكم، فأرى في هذه محاولة حماية لأولئك المتسلطين اكثر مما هو كشف لسوئهم أو إدانة. نعم، تفاصيل الكتابة تشير الى ظلم الى مجازر الى سجون، وسوء عيش، لكنك وانت تكتب ذلك، تمنح المتسلط وجوداً اسطورياً وتبقي المجرمين أو المدانين في واقعهم، انت في الكتابة تثور أو تتمرد، أو تألم، وهم في الحياة يقررون مصائر! اكثر من هذا .
انت تحيلهم الى مسارات تاريخية وأجواء تؤكد سلطانهم المرحلي. وحتى إذا اشرت الى دولة ما، الى نفوذ أو قوة تمدّهم برصاص وآليات تسلّط فأنت تنقل الادانة الى تلك الدولة او القوة، وربما اشفقت بهذا على هذه وحاكميها وكأنهم خُدعوا بتلك او ارتضوها بسبب حاجتهم لعونها، كذا تكون قد نقلت مسوّغات الادانة من تلك لهذه، هذا اشفاق بائس وليس في مكانه، كما ان في كل اشفاق تأكيدَ سلطان جهة وتأكيد ضعف لجهة، التفكير في «خضم» التجربة ومواجهتها العملية ليس هو التفكير بعيدا عنها، ومواجهة العنف جارياً، ليس وصفه والتعليق عليه من بُعد، التجربة التي عاشها الآخرون غير التي تروى عنهم، نحن لا نريد أن نبتزّ ماضي العالم أو تجارب الشعوب أو محن الأفراد، لنزيفها، لنعطيها حقائق وصوراً اخرى ونبيعها. معنى هذا نعرضهم الى اضطهاد آخر .التعسف درجات وكثيرا ما تبدل او تخفف الصفات التي تطلق على الجريمة أو الخطأ وعلى السياقات التي تروى فيها، التجربة فعلا ومعاناة غيرها وصفاً بالكلمات.
لعذابات ومعاناة الناس تاريخ آخر، تاريخ صعب، غير مكتوب ولا مرئي. وما نراه اكثر في وصف افعال الطغاة أو الملوك أو الاسياد يؤكد من جهة قوتهم وهروب وضعف الناس في زمنهم! ثمة خطيئة غير مرئية للأدب وخطيئة غير مرئية للتاريخ!.