شهد العراقُ بعد منتصف القرن الماضي صراعًا أيديولوجيا منفعلًا بين حركاتٍ يساريةٍ أمميةٍ، وحركاتٍ قوميةٍ ودينية، انعكس هذا الصراعُ على النخبة وتسرّب إلى فضاء الجامعات بشكلٍ واسع، وتنوّعت المواقفُ الأيديولوجية والسياسية للأساتذة والتلامذة بتنوعّ هذه الحركات، كلٌّ منهم كان ينحاز لإحدى الجماعات برأيه، ومواقفه أحيانًا، وإن لم يكن منتظمًا في صفوف هذه الجماعة عمليًا، لم تلتزم الحيادَ الأيديولوجي والسياسي إلا أقلية ٌقليلة ذلك الوقت.
لبث علي الوردي غريبًا، يرفضه المجتمعُ؛ لأنه أصرّ على نبذ أكثر القيم العشائرية المكبِّلة للمجتمع. وترفضه المؤسسةُ الدينية؛ لأنه لم يشأ التصالحَ مع المفاهيم الدينية المغلقة المناهضة للتطور وبناء الدولة الحديثة. ويرفضه اليسارُ الأممي، والقومي، لأنه يكشف عن زيف بعض شعاراتهما الرومانسية اللاواقعية، ولا يقبل أدبياتهما الأُحادية، ويفضح طمسَهما للذات الفردية في الحزب والجماعة التنظيمية. ولا يتردّد في الحديث عن التهافت بين “قوقعتهما”(1) وانكفائِهما على كتلتهما الحزبية، ودعوتِهما المثالية الحالمة بالأممية العالمية، أو الوحدة العربية.
لم يصمت علي الوردي، على الرغم من أنه لم يتموضع في أيّةِ جبهة، اختار موقفًا وضع فيه نفسَه في مواجهة الكلِّ، استطاع أن يتخطّى كلَّ هذه الأيديولوجيات،كان ناقدًا لكلِّ الجماعاتِ السياسيةِ في العراق، ناقدًا للماركسية، ناقدًا للجماعات القومية، ناقدًا للتشدّد الديني، ناقدًا لوعّاظ السلاطين، بل ناقد لأفكاره، هذا الموقف النقدي جعل الوردي غريبًا، لا تتحمّس أيّةُ جماعةٍ أو مؤسسة حكومية لترويج أفكاره، وتعرضت أعمالُه لموجةِ سخط قاسية، تمثلت بكتاباتِ أدباء ورجال دين وسياسة، وشائعاتٍ وأباطيل ظلت تلاحقه بين الناس، وكان لتلك الموجةِ أثرٌ بالغٌ في ترويج كتاباتِه المدونةِ بلغةٍ ميسرة يفهمها القراءُ بمختلف مستوياتهم.
في كلِّ محطات حياته كان علي الوردي منحازًا للعقلانية النقدية، ومدافعًا عن حريات الإنسان وحقوقه، لم يقتنع بالشعارات الأممية لليسار التي وقع في فتنتها أكثرُ الشباب، ولم يتورط في التفكير الأيديولوجي السياسي المغلق للجماعات القومية أو الدينية، ولم يتبنَ موقفًا ثوريًا بالمعنى النضالي الذي يدعو إليه اليسارُ الراديكالي والأصولي،كان ديمقراطيًا يدعو لثورةٍ عقليةٍ علمية. في سياقِ مقارنتها فالح عبدالجبار بعلي الوردي، تصف لاهاي عبد الحسين أستاذَها الوردي بقولها: “الوردي عالِمُ اجتماعٍ تحرري ديمقراطي تنويري مدني، أثرى المكتبةَ والوعي الجمعي العراقي بتحليلاتٍ ملهمةٍ ، ووجهاتِ نظرٍ غيرِ مألوفةٍ ، للتأملِ في واقعِ المجتمعِ والظواهرِ الطارئةِ فيهِ”(2) .
لم يلجأ علي الوردي للتمويه، واللعبِ على الكلمات، وقولِ نصف الحقيقة، أو التخفي خلفَ مجازات الكلمات، وكنايات العبارات. كان يخاطب الناسَ بلغتهم المحكية، لم يوظّف ألفاظًا غيرَ متداولة في علاقاتهم ومعاملاتهم، أو يلجأ لمفرداتٍ غير مستعملة في محادثاتهم اليومية، مثلما يفعل بعضُ الكتّاب الذين ينسجون نصوصَهم من كلمات غريبة وربما ميتة يلتقطونها من معاجم اللغة، فتفتقد الكلماتُ قدرتَها على إيقاظ المعنى لدى المتلقي؛ لأنها تفتقرُ للتدفق العفوي والتبادر الذي يحضر المعنى سريعًا في ذهن المتلقي.
نادرًا ما نقرأ لباحث يمتلك شجاعة الوردي وجرأته في نقد نفسه، وأندر من ذلك أن نقرأ اعترافات يعلن قائلُها فيها عن أخطائه العلمية وتعجّله وتناقضاته في إصدار أحكامه كعلي الوردي، فهو يعلن بصراحة أن: “البحث العلمي من شأنه التغيير والتطوير، إذ هو يسير في ذلك تبعًا لتغير المعلومات التي يعثر عليها الباحث مرة بعد مرة، الواقع أني في دراسة للمجتمع العراقي قد نقضت نفسي كثيرًا. وربما أخذت اليوم برأي وناقضته غدًا، ثم رجعت إليه بعد غد، وقد لاحظ الطلاب ذلك مني، حيث وجدوني أغير منهج الدراسة في موضوع المجتمع العراقي عامًا بعد عام. ولست أستبعد، بعد صدور هذا الكتاب ان أغير كثيرا من الآراء التي وردت فيه. وربما شهد القارئ في كتبي القادمة آراء مناقضة لها”(3).
أعرف أن مثلَ هذا الموقف يمثل استثناءً في مجتمعنا، لأن الناسَ يمتدحونك دائمًا عندما يجدون أفكارَك ومعتقداتِك هي ذاتها لن تتغيّر أبدًا، وينفرون منك عندما يجدون أفكارَك ومعتقداتِك تغيّرت. لا ينظر الناسُ إلى أخلاقك ولا يكترثون بإنسانيتك وما يسود سلوكَك من قيم فاضلة. المهم عندهم أن يلبث تفكيرُك كما هو، مهما تعلّمتَ وقرأتَ وعشتَ في بيئات مختلفة، وتنقّلت حياتُك في محطات متنوعة لا تتكرّر فيها المعتقداتُ والأفكارُ والبشرُ والأشياء.
في أول زيارةٍ للوطن شهر “حزيران” 2003 بعد غياب نحو ربع قرن خارجه، التقيتُ بعد عودتي بأصدقاء من الذين مكثوا مرابطين في العراق، كانوا يسألون كثيرًا في الدين أسئلةً متنوعة، فوجئوا بجوابي عن شيء من أسئلتهم، قائلين بأنها لاتتطابق مع ما كنتُ أقوله لهم في سنوات السبعينيات من القرن الماضي. قلتُ لهم: هذا علامةُ صحةٍ عقلية، العقلُ الذي يواصل إثارةَ الأسئلة العميقة، ومراجعةَ القناعات الراسخة، ومسائلةَ ما يقرأ ويتعلم، هو عقل يقظ. الإنسانُ الطبيعي يختلف عن الصخرة، الصخرةُ قارّةٌ ساكنة تلبث كما هي لا تتغير، الإنسانُ كائنٌ حقيقته التحوّل والصيرورة والتجدّد.كلُّ كائن حي لا ينمو لا يتجدّد، ومن لا يتجدّد يموت. التكامل علامةُ الحيوية، وهو تعبيرٌ وجودي عن إصغاء الإنسان لإيقاع التحولات والمتغيرات المتدفقة في الواقع، كلُّ التطور العلمي والمعرفي والتكنولوجي، تحقّق بفعل التفكير العقلاني الذي تسلّح بمساءلةِ الوثوقيات ونقدِها وتمحيصِها.
الباحثون من الجيل الجديد مدعوون إلى تعلّمِ أخلاقيات الاعتراف بالخطأ في البحث العلمي من الوردي، والإفادةِ من مقدرته الفذّة، في كشف ثغرات أفكاره، وإعلانِه عن تحولات آرائه في سياق ما تفرضه عليه المعطياتُ الجديدةُ من نتائج.
يعلن الوردي شعوره بالندم على روحِ الحماسِ والإثارةِ التي يراها القارئ في شيء مما كتبه في كتابه الشهير “وعّاظ السلاطين”، الذي كان أحد عناوين الضجة في وقته. بعد مضي نحو 30 عامً على صدور هذا الكتاب يعلن الوردي ندمَه على تأليفه، فيقول: “إنَ كتابَ وعّاظِ السلاطين صدرَ عامُ 1954 وأني الآن أشعرُ بالندمِ على تأليفهِ، ومن الممكنِ القولِ: إنهُ حصلَ على أهميةٍ أكبرَ مما يستحقُ، إن هذا الكتابِ هو من جملةِ المؤلفاتِ، التي صدرت في العهدِ الملكي، وهو إذن يختلفُ في أسلوبهِ ومنهجهِ عن الكتبِ التي صدرت بعد 14 تموز 1958. حيثُ تغلب عليه روحُ الحماسِ والإثارة، وقد كان الواجبُ على أن ابتعدَ عن ذلك جهد إمكاني، لأن النهجَ العلمي يوجبُ على صاحبهِ أن يكون موضوعيًا يذكرُ المحاسنَ والمساوئ، بلا مبالغة أو مغالاة”(4).