سأل أبو حاتم السجستاني، الأصمعي عن أشعر الفحول، قال: النابغة، وحين رآه (يكتب) حُكْمَه، قال: أتكتب؟ قال: بلى، ففكر ثم قال: بل أولهم كلهم امرؤ القيس! فالأصمعي الناقد العالم والخبير الكبير بخفايا الشعر واللغة، أطلق حكمين مختلفين بمسافة زمنية قصيرة لا تتجاوز الأربعة أصابع؛ ما بين (الشفاهية/ السرية) و (الكتابية/ العلنية) ما بين الرأي الخاص والرسمي العام. لأن السلطة جعلت امرأ القيس (قائد الشعراء إلى النار)، إذن لم يكن الرأي النقدي وحده من أطلق الأحكام، والنقاد القدماء، هم بالأصل (فقهاء). وهذا يعني أن المرجعية الأساسية في النقد العربي القديم هي المرجعية الدينية السلطوية، التي انتظمت بأحكام تتماشى مع النسق الديني الثابت، وحين تظهر أصوات أدبية أو معرفية مخالفة للمألوف الثابت فأنها تُتّهم بـ(البدعة) وهي ضلالة! والضلالة في النار. وتشيع في المدونة النقدية العربية أحكام (ثابتة) انطلقت من رحم السلطة التي تمنح شرعية الإبداع للخطابات الأدبية المنسجمة معها، وجاء النقد ليؤكد شرعيتها وريادتها وسُنّتها، التي ينبغي اتباعها والهدي بهديها. وبلغت ذروتها النقدية،بينما استخلصه المرزوقي من أعمدة نقدية معيارية وقانونية تميز الشعر المنضوي تحت عباءة السلطة من الشعر المتمرد عليها وإلا مَنْ الذي حكم على أبي تمام بالطرد من مدينة العمود لو لا خروجه على الأعمدة النقدية الثابتة؟! ومَنْ الذي أنكر الصوفيين وإبداعاتهم لو لا (السلطة)؟ وحين استبشرنا بالحداثة خيرا أن تكون مرجعا عقليا وفلسفيا يشرعن التحولات الإبداعية ويسوغ التطور الجمالي الذي يسعى إلى إقامة تقاليد شعرية نابعة من طبيعة التجربة الجديدة، لم تكن السلطة بمنعزل عن تلك التحولات. بمعنى لم تمنح العقل النقدي الحرية المطلقة في الأحكام النقدية، فما يقوله الشعراء أو النقاد المنتسبون إلى الطبقة الحاكمة ينبغي أن يُحترم ويُدرّس في الجامعات، بل على النقاد أن يمنحوا شرعية نقدية ومعرفية لما يخدم ركب السلطان ولا يحق لجماعة أدبية أن تعلن ولادتها إلا بعد منحها إجازة رسمية و(رقم إيداع) في سجلات (المؤسسة) ولا يُصبح شعراؤها قديرين إلا برضا العاملين عليها لأن (السلطة لا تكذب).