د.أحمد الزبيدي
كنت أظن أن علي الوردي مبالغ حين عدَّ الازدواجية ضربًا لازمًا للشخصية العراقية، وكنت أظن أن دليله على برهانه متحامل حين ذكّرنا بلازمة عراقية تُقال لحظة الغضب (تعرف منو آني ؟).. وكنت أظن أن المثقف مستثنى منقطع واجب الاستثناء من هذه (الجملة البدوية الفحولية).. وظننت أن الحداثة والمدنية والتحضر قد شذبت الكثير من تلك الرواسب الجاهلية!.. وما نسمع عنه في التاريخ من تباهي المتحاور أزاء الآخر بالأفضلية الزمنية وسبق الولادة هو تاريخ لا غير؛ أو نقع في اللوم على الشعراء وحدهم حين نشم رائحة البداوة في قصائدهم؛ لأن حصتهم من التشريح الثقافي ونقد الأنساق الثقافية تفوق نسبة الثلثين. وما كان لي أن أذكر الوردي وازدواجية (المثقف) لولا ما شاع هذه الأيام من كثرة المثقفين العسكريين الذين يذكرون الآخر بأسبقيتهم (الزمنية)، فمثلا بعث لي أحد الأصدقاء مادة لمجلة الأديب فوجدتها مادة ضعيفة وحين طلبت منه استبدالها قال لي (أنت بعدك في بطن أمك وأنا أنشر في الصحف).. ومن تلك المظاهر أيضًا: ما عُفي (مثقّف!) من منصبه حتى تكشّرت عيوب المسؤول عن إعفائه؛ بل بانت العيوب بأثر رجعي مع فائدة تفوق الفائدة المصرفية، ولست برقيب أو حكم بين السائل والمسؤول، ولكن أعني تحديدًا ثقافة (مَنْ أنا) فمن بين الأدوات الثقافية التي يتباهى بها المثقف على الآخر (المثقف المسؤول) أنه (حصل على درجة الأستاذية أيام كان معاليه للتو يقلب شهادة الدكتوراه بين يديه طازجة!)..
يا سبحان الله! متى كانت (للعمر) حوبة ثقافية ومنزلة معرفية؟ ولو كان الإبداع حسب دفتر النفوس علينا إذن أن نجعل السياب خلف الزهاوي وعلينا أن نسخر من كتاب (الوجودية والعدم) لأن مؤلفه كان في الثلاثين من عمره.. لا شك في أن أعمار المثقفين وسُنن منازلهم تقاس حسب منجزاتهم المعرفية والثقافية والإبداعية، فالعقل وإبداعه ومنجزه هو ما يميز المثقفين والعلماء والكتاب بين طبقات واتجاهات وتنوعات وشهرة ومكانة ومنزلة.. أما هذه النظرة البدوية التي تريد أن تضخم ذاتها بكثرة شيبها فما هي إلا تعويض عن ضعف السواد المعرفي المؤثر في الساحة الثقافية.. ويبدو أن معالي المتنبي قد قرأ جريدة الصباح فقال عن هذه الظاهرة: فما الحداثة عن حلمٍ بمانعةٍ قد يوجد (العلم) في الشبّان والشّيِب.