أن تمر ذكرى ميلاد أو وفاة الفنان جواد سليم ليست هي المعنية، فجواد سليم لا يحدد حضوره بتاريخ ميلاد ولا غيابه بتاريخ وفاة، تاريخه جريان لحضور لايتوقف، مادام منبعه نضال شعب، وعطاؤه لم يجف مادام في النصب عمال وفلاحون وامرأة وثور وطفل، وتأثيره يتزايد حينما ترى العراق فيه لافتة مضيئة، لذلك أحتفل به كلما مررت بساحة التحرير، كما لو كان احتفالي قراءة سورة لم تكتبها الأديان، صورة غارقة في اساطير وادي الرافدين. وأقرأ في هذه الصورة لافتة للعمال والتشرينيين، وكأني أرفعها بيدي مهفهفًا بها في سماء بلادي، فأشعر أن جواد سليم يقرؤها معي، ويردد شعارها معي، ويمد يده ليحملها معي، ويضيف حرفًا لمفرداتها كلما تجدد نضال العراقيين، هو ذلك الذي تراه في ساحات المدن، وفي جبال العراق، وعلى كثبان البادية، علامة وفنار شعب، فنانًا لم تنته حكايته، ولادته الأولى تشبعت بتراث العراق وتاريخه، وولادته الثانية وهو يشيد النصب، فيموت جسدًا قبل أن يرى النصب مكتملا، وولادته الثالثة خط في لافتة شعب اقترنت بهتاف “نريد وطن”، ففي كل انتاج فني تعثر على جواد سليم، وهو يوزع حضوره على المارين والهاتفين وحاملي اللافتات، وحده من يجعل حياتنا جريانا لم ينقطع، كل ما هفهفت راية تحت نصب الحرية، استيقظ العراق على حقوقه، فنصب الحرية بيتهم، سقفهم الفكري، ومتاعهم اليومي.
يحضر جواد سليم كلما ارتفت راية في الساحة، ليتلو علينا نشيد الرافدين في اربع عشرة ايقونة رسمت وحددت مسار العراق منذ البدء والى يوم لم يولد بعد، يتلو جواد قصيدة احجار النص والوانه وتشكيلاته، كما لو كان إلهًا يحضر كلما مرت من تحت نصبه لافتة تطالب بوطن. وها هو يعيد تكويننا في تلك الجموع التي يوجه القناص اليها بندقيته، منذ زمن طويل والقناص يوجه بندقيته، مهما كان لباسه، ومهما كانت صناعتها، فالأزمنة القذرة تولد أشكالًا من القناصين القذرين،لا تختلف سحناتهم وان اختلفت توجهاتهم، أو من ارومة بلدان مجهولة، أو من بلدان جوار، فما يقض مضجعهم هو اللافتة التي تعانق نصب الحرية، هو الهتاف الذي يخترق المسافات، ليصل إلى كراسيٍّ في قصور
مهاجعهم. لا نتحدث عن جواد سليم كفنان ولد ومات، وانتج ما بين الخطوتين لوحات ونصبًا، انما نتحدث عن كوكب ولد في أرض الرافدين ولايزال يشع بضوئه على ساحات العراق وميادينه كلها: لافتة الحرية، وخطوط “نريد وطن” وهتاف لم تعلو عليه أصوات البنادق،هذا هو جواد سليم الذي ولد عام 1926 ولم يمت بعد. تتضح أصالة جواد سليم، عندما نرى الجموع المحتشدة تهتف،”نريد وطن” عندئذ نراه يخطو بين جموعها، ويرفع يدها اللافتة، ويرسم ألوان علم العراق على وجوه شابات وشباب ارادوا ان يكون لهم “وطن” وطن لايباع لغريب، ولا يسرق، ولا يساوم عليه من دخيل، ولا يقتطع إلى اشلاء من مرتزق.. فالعراق نصب للحرية دائم.
وجد جواد سليم في نقطة ضوء كبرى من تاريخ العراق، تلك هي سنوات ثورة تموز 1958، وبقيت النقطة مشعة مادام ثمة صوت يبحث عن”وطن”. صوت يقترن بنصب الحرية.