في السابع عشر من شباط من العام 1987 تمّ إسكات الجسد النحيل، والشيخ المُسنّ، لكنه المشتعل وعيًا وفكرًا وثورةً على الظلم منذ نعومة أظفاره، إنه المفكِّر الدكتور حسين مروة الآتي إلى النجف من إحدى قرى جنوب لبنان، في الربع الأول من القرن العشرين، ليُحقِّقَ رغبة والده الشيخ بأن يكون على مسلكه، حتى إنه حُرِم من طفولته البريئة في أنْ يكون مثل لداته الذين يمارسون ألعابهم في عمر الصبا، فارتدى الجبّة وراح يدرس العلوم الدينية، تلك العلوم التي أفاد منها في تخصيب منابع التفكير لديه، فضلاً عمّا كان يميل إليه من هوىً في كتابة المقال الأدبي والنقدي متابعًا لكل ما يصدر هنا وهناك، فضلاً عن المقال السياسي الذي أودى به في آخر المطاف أنْ يُجابه من حكومة نوري السعيد، بالطرد؛ دلالة قوية تؤكّد دوّي حروفه في صميم الواقع الذي انطلق منه مروة، وكان له أنْ يعود إلى وطنه ليمارس عمله في الصحافة في أكثر من جريدة، وانتهى بترؤسه مجلة الطريق، يحدوهُ وعيٌ يساري، قذف به إلى قراءة التراث العربي وفق منظور الفلسفة المادية التي آمن بها، ووجد فيها ما يمكن تلمسه من أدوات تخلّص ذلك التراث من القراءة المثالية/الغيبية، تلك القراءة التي ما أشبعت نهم وعيه، فراح في جلِّ مقالاته وكتاباته يبحث تارةً ويُحلِّل في مطاوي ذلك التراث عن مكامن الجدة والانطلاق والتحرر من النزعة الغيبية والمثالية الفجّة، وما موسوعته الكبيرة “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” إلا نتاجٌ يؤكّد عمق صلته بالتراث العربي، الذي جعل منه منطلقًا يُعزّز مكانته في النضال ضد قوى التخلف والرجعية، تلك القوى التي جيّرت التراث بما يخدم مواقعها الطبقية، ويبث الخدر على الطبقات المسحوقة؛ لتبقى تحت هيمنة القوى الاستعمارية أو السلطوية منصاعة لها، ويكفي أنْ نجد مروّة مؤمنًا كل الإيمان بنظرته الواعية إلى التراث وقراءته وفق ذلك الوعي الثوري، فيرى أنه من غير الممكن أن نكون ثوريين في موقفنا من قضايا الحاضر، ونكون غير ثوريين في موقفنا من تراث الماضي، فالثورية لديه موقفٌ شمولي، لا يتجزأ، خالصًا بذلك إلى نتيجة مفادها أنّ بناء معرفة التراث على هذا الأساس الآيديولوجي ليس أمرًا مفروضًا على الواقع، وإنما هو من طبيعة الواقع نفسه.
ومن صميم هذا الإيمان، كان للشهيد مروة، أنْ يصدر في نقده الأدبي عن رؤية مؤمنة بالمنهج الواقعي، ذلك المنهج الذي دفعه أنْ يستقرئ الواقع وينطلق من مفاهيمه التي تُسهم هي الأخرى في بلورة النص الأدبي، منتقدًا في الوقت نفسه ما يجده من تفشّي للنقد الذاتي الاعتباطي القائم على نوع العلاقة الشخصية بين الناقد وصاحب العمل الأدبي، لا على نوع العلاقة الفنية بين الناقد والعمل الأدبي ذاته. ومثل هذا النقد يجده لا يساعد على تطوير الحركة النقدية؛ لأنه لا يقدّم للناقدين الآخرين ولا لقرّاء الأدب ولا لخالقي الأدب مقياسًا أو أساسًا يمكّنُ أحدًا من هؤلاء أنْ يتخذه منطلقًا لفهم القيم الأدبية فهمًا ينفذ به إلى جوهر العمل الأدبي ومراميه وجمالياته، الأمر الذي يُفقد النقد وظيفته الأساسية كليا، وبوجود النقد الموضوعي المنهجي تتطور حركة النقد وحركة الأدب وحركة الثقافة بصفة عامة.
مثل هكذا مفكّر عاش متّقد الوعي والإحساس، تطاله يدُ الغدر والجبن، لتُسكت صوته، وتُنهي حراكه الفكري الدؤوب في التراث العربي الذي عشقه، فدرسه دراسةً نقدية، لأجل أنْ يكون معينًا لنا في رفد تصوّراتنا للحاضر، فمن الطبيعي أنْ لا يروق للسلفية وأذنابها أنْ يكون ثمة من يُزيل الصورة القداسوية للماضي ويُميط اللثام عن التراث ويؤنسنه بما ينسجم والواقع الذي عاشه الإنسان بين الأمس واليوم، ولعل أخطر ما يواجه السلفية هو منطق العقل والنقد الذي يمثّل حضور الإنسان فردًا فاعلاً في مجتمعه، في رسالةٍ واضحة تؤكّد لنا عجز أولئك الجناة عن مجاراة العقل، فما بقي لهم غير السلاح من وسيلة تُبرهن على منطقهم الوحيد لإثبات خوائهم الفكري وانهزامهم الداخلي إزاء حملة الفكر من أمثال الشهيد مروة الذي بقي وعيه إلى الآن مضيئًا في ثقافتنا العربية المعاصرة.