إن المأزق العراقي التاريخي يكمن في أنه واقع بين قوتين كبريين غير عربيتين كانت كل واحدة منهما امبراطورية لا تغيب عن حدودها الشمس، ثم أذلهما العرب المسلمون، وقبلهم العراقيون أيام سومر وأكد وبابل وأشور وكلدان، وقد استفاقت لديهما الآن أحلام إحياء العظام وهي رميم، الأمر الذي جعل السيادة الوطنية العراقية، في عهد المحاصصة الطائفية العنصرية البائسة، بلا جدران تصد عنها الطامعتين، وبلا قائد حقيقي يقف بوجههما كما وقف أجداده الأوائل الخالدون.
وفي أحدث حديث لرئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، مع الشرق الأوسط قال، ” إن استخدام الأراضي العراقية لتوجيه رسائل سياسية مسموح فقط عندما يكون من خلال القنوات الدبلوماسية والأساليب السياسية”، “أما أن تكون الرسائل صاروخية أو إرهابية فذلك ما لن نسمح به، وليس من حق أي دولة أن توجه رسائل إلى الآخرين على حساب أمن شعبنا واستقراره”.
إن هذا كلام جميل، وقد يكون صادقا فيه، ولكن الواقع المر يقول غير ذلك. فقد جاء إلى الرئاسة والدولة تصول فيها ثلاثٌ، إيران وتركيا وأمريكا، بسلاحها وخبرائها وضباط مخابراتها ومليشياتها وشركاتها وسماسرتها وطائراتها وسمتيّاتها وأقمارها وجنودها وضباطها وأموالها التي تتساقط في جيوب حلفائها العراقيين، وعلى جرائدهم وفضائياتهم وأحزابهم، دون رقيب أو حسيب.
فإيران تجاهد من أجل خروج القوات الأمريكية من العراق ليخلو لها الجو، ولكن باسم السيادة الوطنية العراقية والمحافظة عليها.
وتركيا وأمريكا تحاولان أن تقتطعا من فريسة الولي الفقيه بعضَها، والسياسيون العراقيون الممسكون برقبة الوطن المختَطَف لا يرون ولا يسمعون ولا يتكلمون.
إلى الحد الذي ينوب عنهم السفير الإيراني في العراق، إيرج مسجدي، فيرفض التدخل العسكري في العراق، ويطالب القوات التركية بـ “ألا تشكل تهديدا أو أن تنتهك الأراضي العراقية”.
ويرد عليه السفير التركي لدى العراق، فاتح يلدز، بالقول إن “سفير إيران لدى بغداد، إيرج مسجدي، هو آخر شخص يمكن أن يلقن أنقرة درسا في احترام حدود العراق”.
يعني أن سفير الحرس الثوري وفيلق القدس، ومُربي كتائب حزب الله العراقي والعصائب وبدر عصائب أهل الحق وسرايا طليعة الخراساني وكتائب سيد الشهداء وحركة حزب الله النجباء وسرايا السلام، ومنظمة بدر – الجناح العسكري منزعج من التدخل العسكري التركي في العراق، ويرفض انتهاكها للأراضي العراقية، ويُشرعنُ لدولته وحدها صلاحية القص واللصق في مستعمرتها العراقية وحدها دون شريك.
وبين هذا وذاك يتأرجح رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة العراقي، وعينه بصيرة، ويدُه قصيرة جدا، مع الأسف الشديد.
فالوجود الإيراني صار واقعا ثابتا ومسلما به، عراقيا وعربيا وأمريكياً، ودوليا أيضا. وهناك قبول فعلي صامت وغير معلن بالعمل الإيراني المنظم من أجل منع أي عودة للأمن والاستقرار إلى العراق، وعدم السماح بقيام حكومة عراقية قوية ديمقراطية محمية، دوليا، قد تحدُّ من هيمنتها، وقد تفكك أحزابها ومليشياتها، وتوقف سطوتها على ثروات الشعب العراقي، وقد تعيد بناء جيش وطني حقيقي، وقد يُستخدم ضدها من قبل الأجيال العراقية القادمة، أسوة بما فعله صدام حسين.
أما موقفها من التدخلات العسكرية التركية فهي، من ناحية، تنسق وتتعاون مع حكومة أردوغان لمنع قيام دولة مستقلة في شمال العراق، وتتوافق معها على ملاحقة الأكراد الإيرانيين والأتراك داخل الأراضي العراقية لمنعهم من إقامة قواعد عسكرية دائمة.
ولكنها، من ناحية ثانية، تريد العراق كاملا لها وغير منقوص، ولا تسمح لتركيا أو لأمريكا أو لغيرهما بأن تقاسمها الهيمنة السياسية والاقتصادية على الدولة العراقية، تحت أية ذريعة، وهو ما يفسر حديث السفير الإيراني عن السيادة الوطنية العراقية، باعتبارها جزءا من سيادة الجمهورية الإيرانية، وفي الصميم.
ولا ننسى أن الحرب الطويلة التي خاضتها إيران الخميني مع العراق، والتي استمرت ثماني سنوات، مكّنتها من تعميق معرفتها بأدق تفاصيل الطبيعة البشرية العراقية، والمالية، والعسكرية، والثقافية، والتاريخية، أكثر من أية دولة أخرى، وهو ما جعل أجهزتها الأمنية والاستخباراتية والدينية أقدر من غيرها على التغلغل وضبط الدولة العراقية، والإمساك المُحكم بجميع شؤونها وعلاقاتها.
ومن هنا تأتي صعوبة الاعتداد بأحاديث رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي عن السيادة الوطنية، وعن رغبته في استعادة هيبة الدولة، وتقييد حركة الدولة العميقة، ومحاربة الفساد، ومحاسبة المتطاولين على الدولة وعليه شخصيا، والكشف عن قتلة المتظاهرين، وإعادة الأمن والاستقرار، ومعالجة العجز المالي الكبير الذي يُقرّب الدولة من حالة الإفلاس.
وبالمناسبة، فقد اعتبر بعض زملائنا الكتاب والمحللين المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الجديد، جو بايدن، مع رئيس الوزراء العراقي، في أعقاب الصواريخ الأمريكية على المواقع الإيرانية في سوريا، ورقةً دعم كبير في معركته (المفترضة) مع المليشيات.
وهنا ينبغي التذكير بأن الدعم الكبير السياسي والاقتصادي غير المحدود الذي غمره به الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترمب، لم يكن كافيا لاستنهاض همته، ولم يدفعه إلى خوض معركة كسر عظم مع صواريخ المجاهدين التي لم تتوقف عن استهداف المنطقة الخضراء ذاتها. وبالتالي فإن أي دعم يقدمه له الرئيس الجديد، جو بايدن، إذا لم يكن مرفوقاً بالقوة العسكرية الضاربة لن يرفع الزير من البير، لا اليوم، ولا غدا، ولا بعد عمر طويل.
فالمعركة التي يراد لها أن تعيد الدولة العراقية إلى أهلها سالمة وبصحتها كاملة، لابد لها من قطع دابر الوجود الإيراني الاحتلالي، أولاً وقبل أي وجودٍ آخر.
فمصطفى الكاظمي في حاجة ملحة جدا إلى طائرات ودبابات وصواريخ عابرة للقارات، وجحافل من الجنود المدربين على حروب الشوارع ليتمكن من قلب الطاولة على رؤوس أصحابها، وليستحق بعد ذلك لقب محرر العراق وحامي سيادته الوطنية الشجاع.
فعدوه، وعدو الشعب العراقي المدجج بالكواتم والسكاكين والمفخّخات والمتفجرات والمدافع والصواريخ والمتمترسٌ داخل الوزارات والمؤسسات والأسواق الشعبية والمدارس والمساجد والحسينيات، لم يخف من كلام ترمب، أمس، ولن يخاف، اليوم أيضا، من كلام خلَفه، بايدن، فهر يخاف فقط من العصا الغليظة التي تضرب ولا تتكلم.