من نوادر الشعر العربي القديم، هذه الأبيات التي سأضعها هنا. وندرة هذه الأبيات لا تتأتى من قيمتها الفنية، فهذه قيمة مألوفة، لكنها تحظى بفرادةٍ خاصة من حيث فحواها، وما تعبّر عنه من رؤية استثنائية، في سياقها التاريخي، لموضوعٍ عام.
الأبيات الثلاثة التالية يمكن، بمنظور قرائي معاصر، عدّها قصيدة مكتملة ومتماسكة بوحدة موضوعها وبكثافتها التعبيرية الموجِزة. وهذه أيضاً حالة نادرة في شعرنا العربي القديم الذي لا تكون القصيدة فيه قصيدة وذلك إذا ما قلّ عددُ أبياتها عن السبعة، إنها أبيات مكتفية بنفسها كنص شعري عضويِّ الوحدة. يقول النص :
الحربُ أوَّل
ما تكونُ فتيَّة
تسعى بزينتِها لكل جَهولِ
حتَّى إذا استعرت وشبَّ ضِرامها
عادت عجوزاً غيرَ ذاتِ خليلِ
شمطاءَ جزت رأْسَها وتنكرت
مكروهة للشمِّ والتقبيلِ
لا تحتاج هذه الأبيات إلى دورٍ شارح لمضمونها الشعري الذي يأتي الشاعر إليه مباشرةً ويتلقاه المستمع أو القارئ بتلقائية.
طبيعتُها اللغوية هي أيضاً لا تتطلب مراجعة معجمية للوقوف على معانيها، كما هو شأن كثير من الشعر العربي القديم. إنها لغة بسيطة غير متكلفة، لكنها مكتنزة بالكناية والمجاز للتعبير المؤثِّر عن فحواها
الإنسانية.
في العادةِ انشغل كثيرٌ من الشعر العربي بالفخر وبالحماسة. وغالبا ما بقي الشعر يركز على البطولة في الحرب والشجاعة فيها كمصدر من مصادر أخرى كثيرة للفخر، لكن داعي الفخر الأهم يظل هو الشجاعة وترجمة هذه الشجاعة بفداحة ما تفعله في العدو، وهذا ما كان يجعل ذلك الشعر منصرفاً إلى (تزيين) الحرب، بحيث يكون الإمعان في وصف ضحايا الأعداء فيها بأبشع الأوصاف والأحوال بعضاً من جماليات شعر الفخر والبطولة. ولعل بيت المتنبي عن (الأحيدب)، بطبيعته الكرنفالية الاحتفالية، هو أحد الأمثلة الأكثر شيوعاً في التعبير عن (جماليات) بشاعة الحرب وضحايا الخصوم فيها:
نثرتهم فوق الأحيدب كله
كما نثرت فوق العروسِ الدراهمُ
الأبيات الثلاثة التي هي محور هذا المقال والتي تدين الحرب هي مما ينقله الرواة عن شعر ما قبل الإسلام، أي أنها قيلت في سياق زمني وثقافي يضفي على مثل هذه الأبيات قيمة ندرتها وحتى فرادتها في مجالها الثقافي والاجتماعي من حيث طبيعة مضمونها وموضوعها. إنها أبيات في هجاء الحرب.
تنسب هذه الأبيات في بعض المصادر لامرئ القيس، الملك الضليل، وهي مثبتة بديوانه بتحقيق عبدالرحمن المصطاوي، فيما تنسبها مصادر كثيرة أخرى إلى عمرو بن معد يكرب الزبيدي. ولا أتوقع أن الأبيات لامرئ القيس لاختلافها عن لغته وأسلوبه ونمط اهتماماته الشعرية، كأرستقراطي مدني، ولابتعادها عما كان يسعى إليه بعد ذلك من طلب للمساعدة في الثأر لأبيه، لكن المرجح أنها للزبيدي، وهو فارس وأحد الشعراء الذين يُنسب لكلٍّ منهم البيتان الشهيران أو أحدهما :
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّا
ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نار نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخُ في رمادِ
وفي الحالين، سواء أكان النص بأبياته الثلاث لامرئ القيس أم لعمرو بن معد يكرب الزبيدي، فهذا ما لا يتعارض مع ندرة هذه الأبيات التي تكرّه الناس بالحرب.
بموجب كتاب فتح الباري، شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني فإن خلف بن حوشب الكوفي، الذي ينسب هذه الأبيات لامرئ القيس، كان يقول إن الناس:” كانوا يستحبُّونَ أن يتمثلوا بهذه الأَبياتِ عند الفتن” بما يؤكد شيوع نزوع واضح لدى كثير من الناس لكراهيتهم الحرب والفتن. وكان خلف بعد ذلك يؤكد أهمية أن تستذكر الناس هذه الأبيات ويتعلموها كلما نشبت فتنة أو أشعلت حرب. يأتي هذا الاستشهاد في (فتح الباري) وذلك في باب منه هو (باب الفتنة التي تموج كموج البحر).
التكريه بالحرب لا يحضر في الشعر العربي القديم إلا بمعنى تأكيد قدرة الرجال على تحمّل ويلات الحرب ومشاقها.
تبدأ الحرب في ضوء الأبيات مغرية ومثيرة للشهوات، إنها امرأة فتيّة، وتسعى بزينتها وجمالها إنما إلى الجهلة من الناس، هؤلاء هم الأكثر افتتاناً بفتاة الحرب من سواهم. لكنها ما أن تقع حتى تتكشف عن حقيقتها امرأةً شمطاء لا تغري حتى بأن تُشَمّ.
يدرك هذه الحقيقة المتقلبة للحرب وللحياة تحت وطأة ظروف الحرب كلُّ من عاشها.
أحياناً يكون ثمن الخبرة الإنسانية فادحاً، لكن قد يظل العزاء لهذا الثمن في حفظ الخبرات والاتعاظ منها. وهذه الأبيات تعبيرٌ عن خبرةٍ وعن محاولةٌ إنسانية صادقة لحفظ الخبرة من خلال الشعر ديوان العرب، وإن كانت محاولة محدودة بندرتها وبكونها رسالة طافية على موج متلاطم من شعر الحرب القائم بكثيره على تمجيد البطولة والقوة والانصراف عن التكريه بالحرب وعما يثير الخوف والهلع من
القتال.
وكان بعضُ العرب يذهب إلى أن الحرب والقتال كانا من دواعي نشأة الشعر، وبهذا يُعلّل ابن سلام، مثلاً، في كتابه طبقات فحول الشعراء، ضعفَ الشعر عند قريش وفي الطائف وذلك بقوله: “وبالطائف شعر، وليسَ بالكثير وإنمَا كان يكثر الشعرُ بالحروب التي تكون بين الأَحياء، نحو حرب الأَوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويغار عليهم. والذي قلل شعر قريش أَنه لم يكن بَينهم نائرة وَلم يحاربوا”. وهذا تصور غير دقيق يحيل دواعي تأليف الشعر إلى محفز خارجي، يكون الشعر أو لا يكون وذلك فقط بمقتضى الحافز الخارجي وبإهمال تام لدور الذات الشاعرة. لكنه يظل تعليلاً معقولاً إلى حدٍّ ما لركود تطوّر المواهب الشعرية أو تقلص انتشارها حين يسود تصوّر معين لا سواه عن وظيفة الشعر في بيئة ثقافية واجتماعية معينة.