نعيش اليوم في عراقنا ظرفا أطلقت عليه تسميات عدة، فمنهم من قال إنه ظرف حرج، ومنهم من أسماه ظرفا صعبا، وآخرون أسموه منعطفا خطيرا، وبعضهم -وأنا منهم- أطلقوا على البلد في ظرفه العسير أنه على كف عفريت، وما التسميات هذه إلا نتاج انسيابي للتداعيات التي وصل اليها البلد بعد عقود طويلة، ظننا قبل ثمانية عشر عاما انها ستنقضي بانقضاء المسبب، باحتساب ان النتائج تُبنى على المسببات، وبتغير الأخيرة تتغير الأولى حتما.
إلا أن الجرة لاتسلم كل مرة، كما أن الظنون لاتصيب في كل الأحيان، وها نحن -العراقيين- نجني ثمار زرع لم نكن قد زرعناه يوما، فقد ثبّت جذوره في عراقنا ساسة أتوا من خلف محطات مجهولة، وحلوا في دست الحكم في ظلمة ليل حالك تشوشت فيه الرؤية لدى العراقيين، وأصاب العشو بصرهم، فاختلط في نظرهم حابل الخيرين بنابل الشريرين، فكان ماكان بعد عام 2003.
اليوم نهض العراقيون نافضين عنهم غبار ماضي السنين، يناشدون تغييرا جذريا لقلب أنظمة العيش في البلد، وليس قلب نظام حكم او انقلاب على شخص يتمتع بمنصب رئاسي أو وجاهي، فكما يقول مثلنا: (تريد عنب لو چتل الناطور!) فالعراقيون اليوم لايبتغون أكثر من العيش بسلام في دار السلام كما كانوا يطلقون عليها، ولايحلمون بأكثر من (شرفاء) يتحكمون بزمام أمر البلد، ويحافظون على إرثه الماضي، وينهضون بحاضره المتعثر، ويوصلونهم الى مستقبل يضمن لهم العيش بأمان مواكبين مسيرة بلدان العالم. وقطعا هذه المعطيات من الأحلام المشروعة لاتتحقق بالتمني ولكن، يبدو أن المتحكمين بأمر البلد اليوم أحالوا حقوق المواطن في وطنه الى أحلام غير قابلة للتحقيق البتة، بل صيروها كوابيس بين معاشة فعلا، وبين متخوف منها لمستقبل لايلوح منه في نهاية أفقه المدلهم غير التوجس والريبة والقلق.
ومادمنا نترقب الانتخابات المبكرة، وعلينا انتقاء من يغيرون الواقع المرير المفروض علينا، من وزراء وممتطي صهوات قياداتها، لانملك نحن العراقيين، غير التمني بأن يكون فرسان أحلامنا من قياديينا الجدد على شاكلة بعض الأولين، الذين كانوا قد اعتلوا مناصب السيادة في مؤسسات المجلس التنفيذي إبان العهود السابقة، وليس علينا غير الحلم ثم الحلم ثم الحلم بالجيدين منهم، وكذلك الدعاء ثم الدعاء ثم الدعاء أن يكون نصيبنا في التشكيلة الجديدة أشخاصا مثلهم، ولانطمع بأحسن منهم.
فبالعودة الى فهرس الإخلاص والنزاهة في سجل ساسة العراق، وقادته المتبوئين مراكز القيادة في مؤسساته التنفيذية، يتضح لمقلب صفحاته ندرة الأسماء، وتباعد الفترات الزمنية التي تتخلل ظهورهم، إذ يبرز بين عشرات الأسماء من المسؤولين اسم واحد او اسمان او على أكثر تقدير ثلاثة، كل عقدين من الزمن، يؤدون واجباتهم كما ينبغي أن يؤدوها، والقليل القليل ممن أداها بكثير من الإخلاص والقليل من الأنانية. ولو أردت ذكر أحدهم فسيكون على سبيل الحصر لا المثال عكس المعهود بالاستذكارات، إذ أن تدني عدد الأخيار يسهل حصرهم بين قوسين، ويحسر الاستشهاد بهم والإشارة اليهم. وفي حقيقة الأمر أن استذكار الجيدين لم تعد له جدوى تذكر، في واقع يعمل فيه السيئون بكامل صلاحياتهم، وتحت غطاء شرعي وقانوني وعشائري ومجتمعي، بل وديني أيضا!
والأخير هذا باتت أدواته بمتناول السراق والمفسدين، فراحوا يمارسون تحت ظله أصناف الموبقات أولها النهب وآخرها النهب، ومابين الأول والأخير نهب ونهب ونهب. ومادام هذا دينهم وديدنهم ودأبهم، فإن استذكار الخيرين، لايجدي نفعا، رحم الله وزير المالية اليهودي ساسون حسقيل.