لدى الولايات المتحدة الامريكية جيش جبار قادر على شن ثلاثة حروب في وقت واحد وفي جبهات دولية متباعدة. لذا قال تشرشل بعد دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية: ” أزف لكم اليوم أعظم الاخبار وهو ان الولايات المتحدة توحدت كما لم تتوحد سابقا على قرار إشهار سيف الحرية وطرح قرابه.”
أكد التاريخ القريب أن مهمة إدارة الدول المحتلة اصعب بكثير من مهمة هزيمة جيوشها واسقاط أنظمتها، وتجارب الولايات المتحدة ليس إستثناءً من هذه الحقيقة. الدول التي تدار مركزيا من قبل حاكم واحد وحزب واحد – كما كان الحال في فيتنام ويوغسلافيا وأفغانستان والعراق- ولاتشترك شعوبها في إدارة الدولة قد تحتاج الى جيش مليوني من الاداريين الامريكيين لادارة شؤونها بعد إسقاط أنظمتها وهذا أمر لم تكن الولايات المتحدة استعدت له جيدا إما لعدم معرفة الأمريكان بالثقافات المحلية لتلك الشعوب وتاليا عدم معرفة مدى قدرتها على التعاون او رغبتها في التعاون مع “المحتل” أو لصعوبة تجنيد هذا العدد الكبير من الاداريين أو لانهم لايريدون إعطاء الانطباع انهم محتلون استيطانيون أو الخوف من الرفض الشعبي الامريكي إذاما عرف الشعب ضخامة التكاليف والجهود التي تحتاجها الحكومة لشن حرب على دولة ما أو كل هذه الاسباب مجتمعة.
كولن باول، وزير خارجية في حكومة بوش الابن حذره قبل احتلال العراق من أن مهمة إدارة العراق بعد اسقاط النظام سوف لن تكون مهمة يسيرة مستشهدا بقبس من شعر: “إذا كسرته تصلحه.”
قال لي أحد الأمريكان المشتركين في حرب إنهاء الحرب العنصرية في يوغسلافيا انه عندما سقط النظام هجر كل الموظفين وظائفهم ووجد الامريكان أنفسهم مسؤولون عن ادارة كل شي حتى تشغيل واطفاء مولدات الكهرباء.
عزا بعض المحللين الفشل الأمريكي في تشكيل حكومات ديمقراطية في الدول التي احتلتها الى افتقارها لتجارب احتلال مباشر كالاحتلالات التي دشندتها دول اوربا الغربية عقب الحرب العالمية الاولى. أحد أهم أسباب فشل المشاريع الامريكية في الدول التي إحتلتها أو أدارتها لبعض الوقت، اضافة الى افتقارها لتجارب الاحتلال، هو معارضة دول الجوار لتلك المشاريع من خلال تأسيس وتمويل وتدريب ميليشيات تدمر كل ما تحاول أمريكا بناءه في تلك الدول. الصين دعمت المقاومة الفيتنامية، باكستان وايران دعمتا ومازالتا تدعمان المقاومة الافغانية وايران تدعم “المقاومة” العراقية ولاسباب طائفية وسياسية، دعمت دول أخرى مجاورة للعراق الارهاب أو غضت عنه الطرف لافشال المشروع الامريكي لدمقرطة العراق.
أجبر تزايد التحديات التي تواجه الادارات الامريكية المتعاقبة في الآونة الاخيرة، أجبرها على إعادة النظر في سياساتها الخارجية وإعادة ترتيب اسبقياتها. تتمثل تلك التحديات بتمدد النفوذ الدولي للتنين الصيني عسكريا واقتصاديا وتكنلوجيا، نجاح روسيا في اختراق العملية السياسية الامريكية وشق الصف الامريكي من خلال التأثير على نتائج الانتخابات الامريكية، تزايد العداء الدولي لامريكا وفقدان ثقة شركائها بها نتيجة لسياسات الرئيس الامريكي السابق دونالد ترمب الرعناء، الخراب الذي لحق بالاقتصاد الامريكي بسبب جائحة كورونا، الانقسام الشعبي الخطير واستمرار تمسك الحزب الجمهوري بسياسات الرئيس السابق دونالد ترامب التي أعادت الحياة للحركات اليمينية المتطرفة، الاختلاف العقائدي لدى الحزبين الامريكيين ( الجمهوري والديمقراطي) حول الاهداف والسياسات الخارجية والداخلية، كل هذه الاسباب مجتمعة اجبرت الادارة الامريكية الحالية على اعادة النظر -كما اسلفنا- بسياساتها الخارجية. إضافة الى أن امريكا لايمكن أن تبقى في العراق وافغانستان الى مالانهاية ترعى حكومات ضعيفة وفاسدة فشلت في خلق قاعدة شعبية تساعدها على تسيير شؤون دولها واستمرت تستمد شرعيتها من الوجود الامريكي والامم المتحدة فحسب.
ولو ان الامر بدأته الادارة الامريكية السابقة، الا أن الادارة الحالية عازمة على تقريب وجهات النظر بين حركة طالبان- التي شنت أمريكا الحرب عليها عام 2001 واسقطت نظامها لعدم تخليها عن أسامة بن لادن- والحكومة الافغانية الحالية لتشكيل حكومة مشاركة وانهاء الصراع الافغاني- الافغاني لإكمال سحب الجيش الامريكي من افغانستان.
الادارة الامريكية تعلم جيداً ان حركة طالبان لايمكن ان تشرك أي احد معها في الحكم، فما بالك بساسة واحزاب تميل الى او تتبنى نظم حكم غربية علمانية، وبالتالي فليس من الاعجاز ان يتنبأ المتابع بهروب حكومة الرئيس اشرف غني ولجوئها الى السفارة الامريكية بعد انسحاب الجيش الامريكي بالكامل، خصوصا اننا كنا شاهدنا الفلم في تسعينيات القرن الماضي وماحصل للرئيسين السابقين محمد نجيب الله وبرهان الدين رباني بعد انسحاب الجيش الاحمر السوفياتي من أفغانستان.
المازق الأمريكي في العراق ليس اقل تعقيدا منه في أفغنانستان والادارة الامريكية التي خططت لاطلاق طائر فينيق ديمقراطي من رماد نار ديكاتورية البعث في العراق، إنشغلت خلال ال 18 سنة الأخيرة باخماد نيران جديدة.
فشلت الحكومات العراقية المتعاقبة في بلورة هوية سياسية واقتصادية واضحة وتنازعت أحزاب سياسية استبدادية فاسدة تمتلك أجنحة مليشياوية على كل شيء وتوافقت على إقتسام النفوذ والمال العام والتشبث بالسلطة مهما بلغ الثمن: تفصيل قوانين انتخابات على مقاساتها، وإن لم تفض الى نتيجة مرجوة فتزوير نتائج الانتخابات لصالح مرشحيها، وإن شعرت ببروز حركات واحزاب ووجوه شبابيه جديدة يمكن ان تقوض سيطرتها على الحكم، دفعت ملايين الدولارات لشراء ولائهم، وان عجزت أرسلت ميليشياتها لاغتيالهم.
يوم بعد آخر يبتعد العراقيون عن تحقيق حلمهم البسيط بالعيش في دولة محترمة يحتكم فيها كل الشعب الى القانون، ووفق قانون عادل ينال كل منهم حقه ويقوم بواجبه، ويفقدون نتيجة لذلك دعم المجتمع الدولي والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الانسان والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد والمحسوبية.
تنفس الامريكيون الصعداء عندما أكدت حكومة نوري المالكي لهم أن العراق سيكون بخير بعد انسحابهم منه والنظام سيستدام، لانهم سيسطيعون أخيراً تنفيذ الوعود التي قطعوها للناخب الامريكي بسحب القوات الامريكية من العراق وافغانستان، فانسحبوا نهائيا بنهاية عام 2011 وفق الجدول الزمني الذي نصت عليها الاتفاقية العراقية الامريكية الموقعة عام 2008، فقط ليجدوا أنفسهم مجبرين على العودة في شهر آب عام 2014 شكرا لنواب الحزب الجمهوري الذي أجبروا إدارة الرئيس الامريكي الاسبق باراك أوباما على الاستجابة لطلب رئيس الوزراء نوري المالكي بعودة القوات الامريكية الى العراق لتحرير ثلث اراضية التي وقعت تحت احتلال داعش في حزيران من نفس العام، نتيجة السياسات الطائفية وسوء إدارة وفساد حكومة المالكي، وكان الرئيس الامريكي الأسبق لايود العودة لان سحب القوات الامريكية من العراق نهائيا كان على قمة اسبقيات اجندته في الانتخابات الرئاسية.
قد يكون من حسن حظ العراقيين ان داعش اعلنت الحرب على العالم ، إذ ماان اسست دولتها في العراق وسوريا حتى بدأت تهاجم المصالح الغربية في كل مكان في العالم، إضطرت أمريكا الى قيادة تحالف دولي يشمل نصف دول الكرة الارضية وعدت العدة وخصصت الموارد المالية والبشرية والعسكرية ودعمت جيوش وميليشيات محلية حتى هزمت داعش وطردته من الاراضي العراقية وتبعته الى سوريا فقضت على آخر معاقله في مدينة الباغوس السورية في مقتبل عام 2019.
وكان نجاح داعش واحتلالها لاراضي شاسعة مليئة بالثروات والموارد في العراق وسوريا بوقت قياسي سببا لغرورها واعتقادها بقدرتها على مواجهة العالم باسره وتأسيس امبراطورية إسلاموية، ولو أنها أوحت بانها ستتبع سياسة خارجية كالتي تتبع طالبان في افغانستان او حتى جبهة النصرة وطمأنت المجتمع الدولي إنها ليس الا حركة داخلية وحسب ولن تستهدف المصالح والرعايا الغربية، لما قادت أمريكا تحالفا دوليا للقضاء عليها، خصوصا عندما يكون الديمقراطيون في سدة الحكم.
بعكس مايعتقد اغلب العرب- والعراقيين على وجه الخصوص- الذين لايرون الاشياء الا من خلال عدسات نظرية المؤامرة، ليس لامريكا سياسة خارجية ثابتة وتاليا عداءات وصداقات دائمة، بل فسياساتها متغيرة تبعا للاجندات الحزبية ومدى قوة مجاميع الضغط الداخلية ومصالح الشركات والاسواق المالية والضغوط الشعبية والمستجدات على الساحة الدولية، لذلك تقلصت أهداف أمريكا في العراق خلال ال 18 سنة الماضية من تأسيس دولة ذات نظام سياسي ديمقراطي حليف يتبنى اقتصاد السوق الحر تراعى فيها حقوق الانسان والحريات العامة الى مجرد دولة ذات قوات أمنية قادرة على منع المنظمات الارهابية الدولية من اتخاذ ارضها مقرا لشن عمليات ارهابية ضد مواطني ورعايا ومصالح الغرب مهما كان نوع النظام السياسي الحاكم.
في ظل غياب حكومة مركزية قادرة على تنفيذ وعودها، من المحتمل جداً ان تتعامل امريكا مع الميليشيات العراقية التي تدعمها ايران لانها الجهة الوحيدة القادرة على تحقيق الهدف الامريكي “المقزّم” فهم ليسوا أسوأ من طالبان خصوصا وان تعريف الارهاب الدولي لاينطبق عليهم، وثم تعلن وانسحابها النهائي من العراق خصوصا اذا ما ساومت ايران أمريكا بالسماح لها بتعزيز نفوذها بالعراق واليمن وسوريا ولبنان مقابل التخلي عن السعي الى القنبلة النووية وانهاء عدائها لاسرائيل وهذا متوقع جدا من المفاوض الايراني.
أحد أهم أسباب تغير الاهداف الامريكية بالعراق هو فشل الاحزاب المتغانمة على السلطة في ايجاد حكومة قادرة على بسط الامن وتطبيق القانون وتنفيذ تعهداتها للمجتمع الدولي والتزامها بالمعاهدات والمواثيق الدولية، لذا اضطر المجتمع الدولي الى التفاوض مع ايران حول قضايا العراق لان حكومة ايران نجحت بتسويق نفسها على أنا الضامن الوحيد لالتزام العراق باي تعهد دولي.أضافة الى أن العراق أصبح يمثل لأمريكا “فاتحة خسرانة” (مثل شعبي يشبّه به العراقيون العمل الذي لاترجى منه فائدة أو ربحاً) وعادت منه بخفي حنين تاركة ايران والصين وتركيا وغيرها من الدول تحصد ثمار إسقاطها لنظام البعث.
بعد دراسة الجدوى والفوائد ومقارنتها بالاضرار والخسائر، قررت وزارة الخارجية الامريكية إغلاق قنصيليتها في البصرة في تشرين الاول 2018 لانها لم تؤد الغرض الذي فتحت من أجله، فلا جالية امريكية في البصرة كي ترعى شؤونها ولا شركات أمريكية كي تسهل لها أجراءات السفر والمحادثات مع المسؤولين العراقيين ولا حتى علاقات ثقافية. وكانت القنصلية متحصنة قرب مطار البصرة في مقر الفرقة البريطانية سابقاً تتلقى هجمات بصوريخ الكاتيوشا بين الفينة والاخرى.
الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب هدد باغلاق السفارة الامريكية في بغداد اذا مااستمر استهدافها بصواريخ الميليشيات الشيعية المدعومة من ايران، وكما هي عادتهم لم يصدقه في وقتها أغلب العراقيين المغرمين بنظرية المؤامرة واعتقدوا انه كان مجرد تهديد غايته ممارسة الضغوط على الحكومة كي توقف هجمات الميليشيات على السفارة. وإذا مااستمرت الحكومات العراقية بفقدان قدرتها على بسط الامن وتطبيق القانون وعجزت عن الالتزام بالحد الادنى من البروتوكولات والمواثيق الدولية فقد تخفض الدول، بما فيها الولايات المتحدة الامريكية، بعثاتها الدبلوماسية في العراق وتستبدل سفرائها بقائمين بأعمال.