لقد ثبت بالدليل أن كل ما كتبناه أو قلناه في الإذاعات والفضائيات عن أحزاب المال والسلطة والسلاح الممسكة برقبة الوطن منذ 2003 وحتى اليوم، وما سنكتبه وما سنقوله في السنوات الأربع القادمة، وحتى موعد انتخابات 2025، هباءٌ وهواءٌ في شبك، فلا أحد منهم يقرأ ولا يسمع ولا يرى.
وحتى لو قرأ نفرٌ أحدٌ منهم اتهاماتنا لهم بالفساد والاختلاس والتزوير والخيانة والعمالة للأجنبي، أأو سمع بتهديداتنا له بغضب الجماهير المؤكد القادم فلن يعكر ذلك مزاجه، بل ربما يُضحكه ويزيده شعورا بالزهو والتفوق والنجاح والشطارة، ويؤكد قناعته بأننا مجرد حاسدين فاشلين لا نجيد غير الكلام الفاضي.
جمعتنا جلسة غير مقصودة ولا مرتبة سابقا مع وزير عراقي من وزراء المنطقة الخضراء، نحن ثلاثة من الصحفيين والإعلاميين العراقيين المغتربين.
سأله أحدنا، كيف ترى عمليات القمع التي أدارها رفاقك في السلطة المسلحة ضد متظاهرين مسالمين في بغداد والمحافظات، وما هو حكمك عليهم لو كنت أنت صاحب القرار في أمر عقابهم؟
فردَّ بسرعة ودون انتظار، “حين يكون اختيارك محصورا بين أن تكون القاتل أو المقتول فلن تجد وقتا لتفكر بأن تحمل سكينك وتغافل بها عدوك الآتي لقتلك ولسلب أموالك وتشريد أبنائك”. ضحكنا جميعا، وضحك هو أيضا معنا ببلاهة، واعتبرناها نكتة عابرة لا يقصدها.
عاد صاحبي فسأل، “ولكن هؤلاء معارضون لطريقة إدارتكم لشؤونهم، فقط، ويرون أنكم فشلتم في حمل الأمانة، ويطالبونكم بالسماح بمجيء غيركم لتصحيح ما يمكن تصحيحه، بدون صِدام ولا اقتتال ولا دماء. ألا ترى أن الغضب الشعبي المتنامي عليكم، على الأقل في السنوات العشر الماضية، هو نهرٌ قد لا تستطيعون إعادته إلى مصبه، ولا حتى وقف تياره الجارف المندفع بقوة نحوكم، وإنما عليكم أن تتنازلوا له عن بعض كبريائكم، وأن تقدموا له بعض ما يريد؟”
قال بعصبية،
“إن المعارضة كلها، بكل أنواعها وأشكالها، لا تهز شعرة من رأس أصغر واحد من كل رفاقنا في النظام.ومضى يتحدث بإسهاب، تعليقا على مقالة نقدية كان أحد زملائنا قد نشرها في جريدة عربية خليجية، فقال، “إننا نرحب بالنقد، ولكن بشرط أن يكون في حدود (المعقول)”.وهنا اختلفنا معه في تحديد هذا (المعقول). فما يراه هو غير معقول نراه نحن، ويراه المتظاهرون في بغداد والمحافظات، معقولا ومشروعا، لأنه لا يقتل رئيسا، ولا يخطف وزيرا، ولا ينسف برلمانا، ولا يقذف قصراً من قصورهم العامرة بمسيّرة مفخخة أو بصاروخ.
وقال له زميلنا، “ليس مقبولا من وزراء حكومتنا الرشيدة أن يَضيقوا ذرعا بما نكتب، رغم أنه أضعف إيماننا. فأنتم انتزعتم لأنفسكم المناصب والمراتب، ولأولادكم وأبناء أعمامكم وأخوالكم الشركات والصفقات والمصفحات والعمارات والمزارع، ولا تريدون أن تتركوا لنا حتى هذا الهتاف اليتيم بحياة الوطن وبالغد المأمول”.
المهم في هذه المقالة أن السيد الوزير، في تلك الجلسة، صارحنا، ولم يستح من أحدٍ منا، فقال،” أنا شخصيا لا أقرأ شيئا مما تكتبونه وما يكتبه غيركم من المعارضين، ولا أسمح لموظفي مكتبي، ولا لأحدٍ في منزلي، بأن ينقله إلي، أو مجرد الحديث عنه، لأن وقتي لا يتسع لهذه الأمور الهامشية والخزعبلات”.
خضنا جدلا معقدا طويلا مع الوزير حول مفهوم الحرية والسلطة والمعارضة، وحدود كل منها في أنظمة الحكم الديمقراطية. فأصر هو على أن شعبنا مازال لايصلح لا للديمقراطية، ولا للمعارضة كذلك.
ضحك الوزير وقال ساخرا، “نحن لا نحتاج إلى معارضة، فنحن نعرف السراط المستقيم أكثر من المعارضة”. ثم استدرك قائلا “ومهما كبرت المعارضة واشتد عودها فلن تحقق شيئا ذا قيمة، وأمامكم صدام حسين. ماذا فعلت معارضتنا العراقية السابقة كلها بنظامه طيلة خمس وثلاثين سنة؟ لا شيء. ولولا بوش ودباباته وصواريخه لعاش أحفادنا تحت سلطة أحد أحفاد السيدة حلى أو أخيها قصي”.
واضاف “من الحقائق التي لا مجال الى إنكارها أن معارضتنا كانت عاجزة عن إلحاق أي ضرر حقيقي بجسد النظام. نعم، كنا نزعجه ونزعج سفراءه، ولكنه لم يكن يعبأ بكل ما كنا نفعله، لأننا معارضون من الخارج.
وحتى حين كانت فصائل صغيرة من أتباعنا تخترق أمن النظام، وتقوم ببعض التفجيرات هنا أو هناك، في بغداد بل في المدن البعيدة الأخرى، لم تكن كافية لتجعل النظام يخفف قليلا من عنفه، ويفكر، مجرد تفكير، في الاستماع إلى آرائنا وأفكارنا. بل كان يفعل العكس. كان يُحوّل تلك التفجيرات إلى سلاح بيده ضدنا.
لقد كنا جميعا في الخارج إما ضيوفا على دول بعيدة جداً عن الوطن، فنعارض النظام كمن يغني وحده في الحمام، أو مقيمين في دول مجاورة لم تكن تسمح لنا بالقيام بأي نشاط سياسي أو عسكري ضد صدام، إلا بالقدر الذي تحتاجه مصالحها وحساباتها”.
ومضى الوزير في تثقيفنا قائلا، “منذ بدء الخليقة كانت الحكومات تسير والمعارضون (يثرثرون)”.
في ختام هذا الجدل العقيم قال أحدنا للوزير، “إنكم، يا (رفاقنا) المعارضين السابقين، تفعلون اليوم بشبابنا تماما ما كان يفعله بكم صدام حسين. قال، “هذا تحامل وعداء لا نسمح به”، ونهض مسرعاً، وأنتهى اللقاء.