لا تظننَّ أنَّ هناك مَن يُزيد على قوله: «إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ»(التَّوبة: 18). فالاسم المسجد الجَامع مِن العِبادة، حيث تُقام صلاة الجُمعة، والمعنى واحد، وتصح الإضافة لاختلاف اللَّفظ(الجوهري، الصَّحاح). بهذا، ليست مهمة المسجد السِّياسة ولا التَّنظير جهلاً أو عِلماً، ناهيك عن الخوض في التَّحريض الطَّائفي والمجتمعي، فهو مكان عبادةٍ، وعُرفت المساجد ببيوت الله، لا يتصرف بها أحدٌ بمزاجه.
يقع مسجد «براثا»، بالكرخ، منطقة العطيفية. يقوم الشَّيخ جلال الدِّين الصَّغير برعايته، منذ (2003)، وكأنه وراثة لوالده الشَّيخ علي الصّغير، وبعد وفاته عُين للمسجد أئمة آخرون، لكنَّ الشَّيخ وجدها فرصة ليدخل المسجد فاتحاً مع (فتح) الأميركان لبغداد، وسرعان ما نسى فضلهم، ليوجه المسجد إلى مكان للتحريض ضدهم، وتأييد لخصومهم، فهو يتكلم الآن عن «السَّيد القائد» مِن خارج الحدود.
أصبح «براثا»، لمدى (18) سنةً، منصة للبث الطَّائفي، ومحاضرات الشَّيخ(العلمية)، ولهذا أنشأ فوق قبر طه باقر، وغيره مِن الكبار الموارين في تربة المسجد، «ملتقى براثا الفكري». فمِن محاضراته «الكوكب المُذنب وطلوع الشَّمس مِن المغرب»، وهذا يتوافق مع «صيحة جبرائيل» إيذاناً بخروج المنتظر، وعن أسرار «يأجوج ومأجوج»، وصلتها في ما بين أميركا والصين، وعن انهيار الحضارة الغربية بما عبر عنه بـ«هرج الروم»، وكثيراً يُقدم موضوعه بعبارة «طُلب مني الحديث»، كأنه يريد القول: «اسألوني قبل أنْ تفقدوني»!
يأتي الشيخ بأخبار الفيلسوف البريطاني رُسل(ت: 1970) عندما سَمع بـ«الأسس المنطقيَّة للاستقراء» لمحمد باقر الصَّدر، فقال رُسل: «ولد فيلسوف بالشَّرق»! مع أنَّ الكتاب دُفع للطبع بعد وفاة رُسل(1971)؟! كذلك زكي نجيب محمود(ت 1993)، لما أطلع على الكتاب طلب ترجمته، لكنه أعاده معتذراً لعدم وجود القادر على ترجمته لصعوبته، هذا ما قاله إمام «براثا»، ولم يسأل نفسه عن كتب الفلاسفة الأقدمين والمتأخرين كيف تُرجمت، فهل كانت أقل تعقيداً مِن كتب الصَّدر مثلاً؟!
أقول: لو استفاد الصَّغير مِنْ المنحة الدراسية إلى فرنسا، التي منحها له النِّظام السَّابق، لعتقنا مِن محاضراته. لكنَّ رياح الثورة الإيرانية أخذته، إلى طهران وقُمْ، ليعود شيخاً مع الأميركان، ويتفرد بمسجد «براثا».
غير أنَّ الصِّلة بين المسجد المذكور و«براثا» الاسم فقط، فبراثا قد أُزيل قديماً وكان مكانه محلة المنصور حالياً، فالشَّيخ الذي أتحفنا بالشّروق مِن المغرب، ظل يعيش على رواية أن شخصاً اسمه براثا أمره علي بن أبي طالب لتشييد مسجد، وعلى هذا صار مقاماً للإمام. أمَّا المسجد الذي يرعاه الشَّيخ فاسمه «المنطقة»، وقبلها «العتيقة»، والمتأخرون أطلقوا عليه «براثا» خطأً(سوسة وجواد، دليل خريطة بغداد).
أمَّا براثا فمفردة سريانية- آراميَّة وتعني «العذراء»، وبهذا المعنى كان المكان كنيسة، ويُضاف أن براثا اسم قرية، يسكنها نصارى(حداد، كنائس بغداد ودياراتها). لكنْ ما نجده عند محمد باقر المجلسي(ت: 1699): بناه رجل اسمه براثا(بحار الأنوار)! ويصعب تسمية رجل بالعذراء، وعندما ترد مفردة «القلاية» يعني وجود كنيسة.
يُسجل الماضي ويكتب التَّاريخ عبر الرّوايات، لكنَّ الصَّغير وأمثاله يسجلون المستقبل بالرّوايات، بجبرية محكمة، مع أنَّ الإماميَّة ترى: «لا جبر ولا تفويض»(المُظفر، عقائد الإماميَّة). أقول مع كلّ هذا، أسجل للشيخ عقلانيته عندما وقف في البرلمان العِراقي، معترضاً على تطبيق الشَّريعة، في العقوبات، لأن الزَّمن آخر.