آخر تحديث:
د. نصيرجابر
لا شك في أن كل من يندك في فلسفة اشكالية ستتكون له رؤيا خاصة عن جسده تنبعُ من المفاهيم التي تتبناها وتؤسس لها هذه الفلسفة ومن ثمّ سنرى – كما يفترض المنطق- صدى لتلك الرؤيا والفهم في نتاجه وسلوكه ونظرته للجسد كمشكلة معرفية وثقافية أينما مرّ في تضاعيف الحياة والفحص والإجراء. نكتب سيمون دي بوفوار وهي تحاول أن تصف علاقتها بسارتر وكيف كانت مبنية على الاقتراب والابتعاد في آن واحد: (في فترة شبابنا، سارتر وأنا، كان أحدنا يقول للآخر، بعد نقاش محتدم ينتصر فيه متألقا: {ستبقى في عالمك!} نعم، ستبقى في عالمك، لن تخرج منه أبدا، ولن أوافيك فيه، حتى لو دفنت إلى جانبك، ولن يكون بين رمادك وبقاياي أيُّ ممر). ففي (مراسيم الوداع) كتابها المهم عنه والذي ينقسم على جزأين.. الأول يوميات تتابع فيها آخر عقد من حياة سارتر (1970 – 1980)، والثاني عبارة عن حوارات طويلة ومعمقة وأحيانا مملة معه في مواضيع شتى تسيح فيها بحرية وعفوية وأحيانا بخبث ونكد بحيث تظنها تمتاحه وتستلذ بالغور في تجاعيده، ولأنني شعرت أنني معنيٌّ بكل حرف بهذا الكتاب بعد قراءتي للإهداء الذي وضعته سيمون (إلى الذين أحبّوا سارتر ويحبّونه والباقين على محبّته) فقد تصفحته بتمعن وأنا أبحث عن ظلال أخرى لهما على بعض وخاصة فكرة الجسد الوجودي في عين رائية مثالية.. الجسد وهو يتداعى ويضمحل أمام رفيقه الذي لا شك ولا ريب أنه يرى تداعيه هو أيضا في مواجهة الزمن والأمراض والتآكل الروحي واليأس والخذلان. الوجودية فلسفة خلق ورؤيا ثاقبة تفرّست في ملامح الجسد واشاراته وانطلقت منه حتى قال سارتر جملته العنيفة: (أنا الجسم، والباقي هو العدم والصمت المطبق) وكان الجسم في سنواته الأخيرة يذوي ويتحول رويدا رويدا إلى مادة صالحة للعدم لا للحياة، فكيف قاومت سيمون هذه الفكرة وهي تفحصُ وتحرصُ على صحّة رفيقها الصارم الذي ما كان لنا أن نتعرف على كثير من تفاصيل حياته الدقيقة لولا هذا الكتاب: (كان سارتر متعباً. ظهر خرّاج في فمه، وبدت عليه أعراض الأنفلونزا، لكنه في اليوم الثامن من تشرين الأول، قدم مخطوطته الضخمة عن فلوبير وهو في حالة من الابتهاج) وتتابع: بعين التوجس حالة جسده الذي بدأ يقلقها ويثير فيها مخاوف حقيقية خاصة عندما بدأ بصره يضعف وأصبحت القراءة والكتابة – عماد حياته كلها – من المهام الصعبة عليه والمتأمل في ملاحظاتها التي دونتها بلغة تبدو أحيانا حيادية سيعود إلى تلك الظاهرة التي شكلها هذا الثنائي طوال سنوات طويلة، وما نتج عنها من اشارات وتلميحات كانت تعزّز هواجس أجيال ناشئة ترى في هذه الرفقة فتحا جديدا للعلاقات الإنسانية، فهي علاقة مائزة بين فكر وفكر وتجربة وتجربة بينما قد يرى بعضهم أنها -أي سيمون- لم تكن إلا انتهازية تسلت على أكتاف سارتر لتصل إلى ما وصلت إليه.. ويبدو (مراسيم الوداع) -عند هؤلاء- اعتراف متأخر منها بأنها رافقت (جسدا) لا (فكرا)، وأن الحيز الذي جمعهما كان مجرد مصادفة طويلة الأمد، وهذه القراءة التي تخذل كل متحمس للوجودية لها ما يسوغها فيما لو نظرنا إلى العلاقة من وجهة نظر المألوف واليومي الذي ينظم طبائع العلاقات، ولكننا يجب أن ننتبه إلى أننا إزاء فصيلة جديدة غير مسجّلة من البشر آمنت بفلسفة ثورية حاولت أن تهدم المفاهيم التي رُسخت قبلها لتجد حلا جديدا للعالم الذي ستعيشه فكانت حياتهما هي المثال لتقول في نهاية اليوميات:
(موته فرّقنا، وموتي لن يجمعنا) وهي جملة مسننة جدا تلخصُ الفهم المغاير الحقيقي الكامن في عقل هذه المرأة التي لا مساحة دهشة لديها تغازل فيها حياة قادمة وراء الجسد حيث كل شيء لا وجود له، بحسب ايمانها الراسخ، لذا كان الجسد طوال (مراسيم الوداع) بصفحاتها الـ (644) حاضراً بقوة.. مرّة منهكاً ومرّة محتدماً، ولكنه في جميع الأحوال جسداً وجودياً صافياً ينثّ حياة. لقد شكّل هذا الكتاب -الذي تأخّر نقله إلى اللغة العربية كثيرا فلم يصدر إلا عام 2021 بترجمة الدكتور قاسم المقداد – فرصة عظيمة لكل باحث محبّ ومتابع حريص لهذه الشخصية المحورية التي شغلت العالم لعقود طويلة، وماتزال فاعلة مؤثرة في حراك المعرفة الرصين، وقد زاد من أهميته وقيمته أنه كُتب بقلم رفيقة دربه وفكره دي بوفوار التي لازمته طوال خمسة عقود طويلة خصبة، مثمرة، نما فيها نتاجهما الاشكالي قرب بعض وتحاورا فيها كثيرا من دون أن يلج أحدهما حصن الآخر ويقتحمه كما يفترض المنطق السليم الذي أسّس حياة شخصيتين حرتين جدا لا يمكن المساس بجوهرهما لأنهما يؤمنان بالفردانية التي بُنيت عليها حياتهما العلمية والفكرية.